الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أمّا بعد:
فيحتفل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عام، بذكرى مولد نبي الأمة ونبي الرحمة، والذي بمولده استنار الكون كله، وأشرقت الأرض بنوره، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}] الأنبياء:107[.
حيث انقشعت الظلمات، وتلاشى الظلم، وانتشر العدل، وعمَّ السلام، وتساوى الناس.
إن ذكرى مولده -صلى الله عليه وسلم- ليست ذكرى مولد إنسان عادي أو عظيم، بل هي ذكرى مولد أمة جديدة، حاربت الظلم والطغيان، ورفعت شعارها الخالد {مَتىَ أسْتَعْبَدْتُمْ النْاسَ وَقَدْ وَلَدَتْهُمْ أمّهْاتُهُمْ أحْرَاراً؟}.
أمة لا تفرق بين أبنائها، ولا تكره أحداً على الدخول في دينها، قال الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256[.
ولد النبي - صلى الله عليه وسلم - يتيماً ولد في عام الفيل، وقد مات أبوه عبد الله، وأمه حامل به لشهرين، فكفله جده عبد المطلب، واسترضع من حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية.
وكانت بادية بني سعد تعاني سنة مجدبة، ولما وصل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليها حلت البركة بيت حليمة.
إذن ولد النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- يتيماً لحكم عظيمة من أهمها: أن يتولى الله تربيته بنفسه، ولا يترك للبشر يداً عليه؛ حتى لا يظن أحد أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- رضع لبان دعوته من جده أو عمه، وقد زعم ذلك المشككون فيما بعد.
ووقعت للنبي -صلى الله عليه وسلم- حادثة عظيمة عند مرضعته حليمة، ألا وهي حادثة شق الصدر، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضيَ اللهُ عنه- «أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَتَاهُ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ - يَعْنِي ظِئْرَهُ - فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ، قَالَ أَنَسٌ: «وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ» [رواه مسلم (1/ 147) رقم 162].
والمراد بذلك تهيئة النبي -صلى الله عليه وسلم- للرسالة منذ الصغر، وليس كما يظن استئصال غدة الشر من جسمه -صلى الله عليه وسلم-، إذ لو كان الشر منبعه غدة؛ لأمكن أن يصبح الشرير خيّراً بعملية جراحية.
هذا ما حصل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونستفيد منه نحن المسلمين أن نقتدي به، فنجدد التوبة والإنابة لله سبحانه، ثم بعد ذلك نقتدي به صلوات الله وسلامه عليه كما قال مولانا سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]
وقال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 31، 32].
لقد اتصف نبينا -صلى الله عليه وسلم- بالخلق الحسن، فقد كان منذ صغره رجلاً صادقاً أميناً، عادلا إذا حكم، حكيماً إذا تصرّف منحه الله عقلاً وافراً، وخلقاً عظيماً، ويداً سخية منحه الله صفات كثيرة، فما عرف التاريخ رجلاً حليماً كمحمد عليه الصلاة والسلام، ولا رجلاً عفواً كعفوه، ولم يعرف التاريخ قاضياً عدلاً كمحمد -صلى الله عليه وسلم- ولا قائداً فذاً مثله -صلى الله عليه وسلم-.
كان لا يغضب إلا لله غضباً من غير حقد، ولا غل، كان وصولاً للرحم، وفياً بالعهد، عفيفاً، زاهداً متواضعاً، كان أنبل الناس خلقاً، وأكرمهم معاشرة، وأحسنهم حواراً وجواراً، وكان يمازح أصحابه، يقبل عذر المعتذر، ويبدؤهم بالسلام، ويؤثرهم على نفسه، وماذا عساني أن أذكر من صفات وأخلاق، ومدح، وثناء، والله تعالى يمدحه بما لا نستطيعه، فيقول سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}] القلم: 4[.
وعلى هدي المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- تتجسد دروس وعبر، سجلها التاريخ لنا، حيث اعتنى ببناء المجتمع وأبنائه، ووصل النور إلى العالمين، وشعر الناس بدفء رسالته وأمنها، وأمانها، ورحمتها، فعاش الكل في رحاب حظيرته الواسعة، ومائدته الغنية، وأخلاقه العظيمة.
وبعد فهذا غيض من فيض من الدروس والعبر المستفادة من مولد سيد البشر -صلى الله عليه وسلم-، أردت بها تقرباً لله، وحباً له عساه أن يرضى، وأن يكون شفيعاً لنا يوم القيامة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الشيخ عبد الباري بن محمد خلة