الحمد لله وكفى،
وسلام على عباده الذين اصطفى، أمَّا بعد:
فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهمَا-قَالَ: «قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ، فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ -صلى اللهُ عليه وسلَّم-: فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ» [رواه البخاري (3/44) رقم 2004].
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم - يَأمُرُنَا بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَيَحُثُّنَا عَلَيْهِ وَيَتَعَاهَدُنَا عِنْدَهُ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ، لَمْ يَأمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا، وَلَمْ يَتَعَاهَدْنَا عِنْدَهُ» [رواه مسلم (2/ 794) رقم 1128].
وعن معاذ بن جبل -رضيَ اللهُ عنه- قال: {أُحِيلَ الصِّيَامُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ، فَجَعَلَ الصَّوْمَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الصِّيَامَ بِقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ} [رواه البيهقي (4/ 336) رقم 7895].
فكان صيام يوم عاشوراء فرضاً، فنسخ بصوم رمضان، وهذا دليل على جواز النسخ من الأخفّ إلى الأثقل كما ذهب بعض الأصوليين.
أي يوم هو عاشوراء؟
اختلف الفقهاء في أي يوم عاشوراء، فقيل: هو اليوم التاسع من شهر المحرم، والراجح أنه اليوم العاشر، قال النووي -رحمه الله-: {قَالَ أَصْحَابُنَا: عَاشُورَاءُ هُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ الْمُحَرَّمِ، وَتَاسُوعَاءُ هُوَ التَّاسِعُ مِنْهُ هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَاشُورَاءُ هُوَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنْ الْمُحَرَّمِ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَتَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ إظْمَاءِ الْإِبِلِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْيَوْمَ الْخَامِسَ مِنْ أَيَّامِ الْوَرْدِ رِبْعًا - بِكَسْرِ الرَّاءِ - وَكَذَا تُسَمِّي بَاقِيَ الْأَيَّامِ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ فَيَكُونُ التَّاسِعُ عَلَى هَذَا عِشْرًا - بِكَسْرِ الْعَيْنِ - وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَهُوَ أَنَّ عَاشُورَاءَ هُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ وَمُقْتَضَى إطْلَاقِ اللَّفْظِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ} [المجموع شرح المهذب (16/ 441)].
فضل صيام عاشوراء
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهمَا- قَالَ: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلّا هَذَا الْيَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ» [رواه البخاري (3/44) رقم 2006]. ويتحرى أي يقصد صومه.
وعنْ أَبِي قَتَادَةَ: أن رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؟ فَقَالَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ» [رواه مسلم (2/ 819) رقم 1162].
والظاهر أن التكفير للصغائر دون الكبائر؛ لأن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة النصوح، ورد المظالم إلى أهلها، قال الإمام النووي -رحمه الله-: {يُكَفِّرُ كُلَّ الذُّنُوبِ الصَّغَائِرِ، وَتَقْدِيرُهُ يَغْفِرُ ذُنُوبَهُ كُلَّهَا إلا الْكَبَائِرَ.
وقال -رحمهُ الله-: صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ، وَيَوْمُ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ، وَإِذَا وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ... كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ صَالِحٌ لِلتَّكْفِيرِ، فَإِنْ وَجَدَ مَا يُكَفِّرُهُ مِنْ الصَّغَائِرِ كَفَّرَهُ، وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً كُتِبَتْ بِهِ حَسَنَاتٌ وَرُفِعَتْ لَهُ بِهِ دَرَجَاتٌ، وَإِنْ صَادَفَ كَبِيرَةً أَوْ كَبَائِرَ وَلَمْ يُصَادِفْ صَغَائِرَ، رَجَوْنَا أَنْ تُخَفِّفَ مِنْ الْكَبَائِرِ} [المجموع شرح المهذب (16/ 441)].
استحباب صيام تاسوعاء مع عاشوراء
عن عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاسٍ -رضي الله عنهمَا- قال: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَأَمَرَ بِصِيَامِه، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ» قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. [رواه مسلم (2/ 797) رقم 1134].
وقد ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم إلى أنه يستحب صوم التاسع والعاشر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- صام العاشر، ونوى صيام التاسع، فقبض قبل صيامه.
وعليه فصيام عاشوراء على مراتب، أدناها أن يصام وحده، والأفضل أن يصام التاسع معه، والحادي عشر ومن السنة الإكثار من الصّيام في شهر المحرّم.
الحكمة من استحباب صيام تاسوعاء
الحكمة من ذلك مخالفة اليهود الذين كانوا يعظمون يوم عاشوراء وقيل غير ذلك، قال النووي -رحمه الله-: {ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي حِكْمَةِ اسْتِحْبَابِ صَوْمِ تَاسُوعَاءَ أَوْجُهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ فِي اقْتِصَارِهِمْ عَلَى الْعَاشِرِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضيَ اللهُ عنهما-، الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَصْلُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِصَوْمٍ، كَمَا نَهَى أَنْ يُصَامَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ، ذَكَرَهُمَا الْخَطَّابِيُّ وَآخَرُونَ. الثَّالِثَ: الاحْتِيَاطُ فِي صَوْمِ الْعَاشِرِ خَشْيَةَ نَقْصِ الْهِلَالِ، وَوُقُوعِ غَلَطٍ فَيَكُونُ التَّاسِعُ فِي الْعَدَدِ هُوَ الْعَاشِرُ فِي نَفْسِ الأَمْرِ} [المجموع شرح المهذب (16/ 442)].
حكم إفراد يوم عاشوراء بالصيام
ذهب بعض الفقهاء إلى كراهة إفراد يوم عاشوراء بالصيام، لكن الراجح أنه يجوز إفراده من غير كراهة.
حكم صيام يوم عاشوراء إذا جاء يوم سبت أو جمعة
ولو وافق يوم عاشوراء يوم الجمعة أو السبت، فلا يكره إفراده؛ لأن النهي -عند القائلين به- يكون من غير سبب؛ أما إذا كان هناك سبب أو مناسبة منصوص عليها، فلا كراهة، قال الطحاوي -رحمه الله-: {وَقَدْ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي صَوْمِ عَاشُورَاءَ وَحَضَّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ إنْ كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ، فَلا تَصُومُوهُ، فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى دُخُولِ كُلِّ الْأَيَّامِ فِيهِ، وَقَدْ يَجُوزُ عِنْدَنَا -وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- إنْ كَانَ ثَابِتًا (أي النهي عن صيام السبت)، أَنْ يَكُونَ إنَّمَا نُهِيَ عَنْ صَوْمِهِ؛ لِئَلّا يَعْظُمَ بِذَلِكَ، فَيُمْسَكَ عَنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْجِمَاعِ فِيهِ، كَمَا يَفْعَلُ الْيَهُودُ، فَأَمَّا مَنْ صَامَهُ لا لإِرَادَةِ تَعْظِيمِهِ، وَلا لِمَا تُرِيدُ الْيَهُودُ بِتَرْكِهَا السَّعْيَ فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ ..} [شرح معاني الآثار (2/ 80)].
بدع عاشوراء
هناك طائفتان ابتدعتا في يوم عاشوراء بدعا ما عرفها الأولون من أئمتنا وفقهائنا:
طائفة تحتفل بهذا اليوم بإظهار الحزن، والندب، والنياحة، واللطم، متذكرين بذلك مقتل الحسين رضي الله عنهما.
وطائفة أخرى تحتفل في هذا اليوم بالفرح، والسرور، والكحل، والحناء، والمصافحة، إلى غير ذلك من أشياء، وهؤلاء يقابلون الشر بالشر والبدعة بالبدعة.
ورووا في ذلك أخبارا نسبوها للنبي صلى الله عليه وسلم كذبا، منها: 'مَنْ اكْتَحَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَرْمَدْ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ'.
ومنها: 'مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَمْرَضْ ذَلِكَ الْعَامِ.
ومنها: 'مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ السَّنَةِ'.
وكل ذلك باطل لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكلا الطائفتين مخطئة، خارجة عن الوسطية، والسنة، فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه أنه فعل شيئا في يوم عاشوراء، غير الصيام. [ينظر الفتاوى الكبرى: ابن تيمية (4/ 459)].
فيوم عاشوراء يوم فاضل نتعبد الله فيه بما شرع من صيام فقط.
أما أن نبتدع في دين الله ما ليس منه فنعوذ بالله من ذلك. والله أعلى وأعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الشيخ عبد الباري بن محمد خلة