الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فالتسعير هو إلزام التجار ببيع السلعة بقيمة معينة، وغالبًا ما يتحكم عامل العرض والطلب في الأسعار.
والتسعير لا يخلو من حالتين: الحالة العادية التي لا غلاء فيها، أو حالة الغلاء.
الحالة الأولى- التسعير في الأحوال العادية التي لا غلاء فيها.
التسعير في هذه الحالة يكون ظلمًا للتجار وإكراهًا لهم على البيع بثمن لا يرضونه، وقد ذهب جمهور العلماء إلى عدم جواز التسعير في هذه الحالة، حيث لا يظهر فيها ظلم التجار، ولا الغلاء في الأسعار، ويدل على عدم جواز التسعير قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29].
قال الشوكاني-رحمه الله-: {من وقع الإجبار له أن يبيع بسعر لا يرضاه في تجارته، فقد أجبر بخلاف ما في الكتاب} [السيل الجرار (ص: 516)].
وعنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ غَلَا السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ، الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ» [رواه الترمذي بسند صحيح، رقم 1314، (3/ 597)].
قال الصنعاني-رحمه الله-: {الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّسْعِيرَ مَظْلِمَةٌ، وَإِذَا كَانَ مَظْلِمَةً فَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَالْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى تَحْرِيمِ التَّسْعِيرِ لِكُلِّ مَتَاعٍ وَإِنْ كَانَ سِيَاقُهُ فِي خَاصٍّ} [سبل السلام (2/ 33)].
فالناس مسلطون على أموالهم، والتسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، لا في تقييد الناس في معاملاتهم والأصل في المعاملات الحل.
قال ابن الرفعة-رحمه الله-: {يحرم التسعير، وهو أن يأمر الناظِرُ في أمر المسلمين أهل السوق ألاَّ يبيعوا أمتعتهم إلا بسعر كذا؛ لأنّ الناس مسلطون على أموالهم، وفي التسعير عليهم إيقاع حجر، وذلك غير جائز في مطلق التصرف، ولأن الإمام مندوب إلى النظر في مصالح الكافة، وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن بأولى من نظره في مصلحة البائع بوفور الثمن} [كفاية النبيه في شرح التنبيه (9/ 283)].
والأصل في الشريعة حرية التعامل بين الناس في حدود الشرع وضوابطه، ومما لا شك فيه أن هذه الحرية تعد سبباً من أسباب قوة الاقتصاد الوطني.
والتسعير دون الحاجة إليه يخالف الأصول التي وضعها ديننا الحنيف حيث يقيد الحرية، ويعمل على اختفاء السلع من الأسواق مما يعود على المجتمع بالضرر، قال ابن قدامة-رحمه الله-: {قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: التَّسْعِيرُ سَبَبُ الْغَلَاءِ، لِأَنَّ الْجَالِبِينَ إذَا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ، لَمْ يَقْدَمُوا بِسِلَعِهِمْ بَلَدًا يُكْرَهُونَ عَلَى بَيْعِهَا فِيهِ بِغَيْرِ مَا يُرِيدُونَ، وَمَنْ عِنْدَهُ الْبِضَاعَةُ يَمْتَنِعُ مِنْ بَيْعِهَا، وَيَكْتُمُهَا، وَيَطْلُبُهَا أَهْلُ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، فَلَا يَجِدُونَهَا إلَّا قَلِيلًا، فَيَرْفَعُونَ فِي ثَمَنِهَا لِيَصِلُوا إلَيْهَا، فَتَغْلُوا الْأَسْعَارُ، وَيَحْصُلُ الْإِضْرَارُ بِالْجَانِبَيْنِ، جَانِبِ الْمُلَّاكِ فِي مَنْعِهِمْ مِنْ بَيْعِ أَمْلَاكِهِمْ، وَجَانِبِ الْمُشْتَرِي فِي مَنْعِهِ مِنْ الْوُصُولِ إلَى غَرَضِهِ، فَيَكُونُ حَرَامًا}[المغني لابن قدامة (4/ 164)].
الحالة الثانية- التسعير في حالة الغلاء.
إذا غلا السوق غلاءً فاحشًا يكون من العدل إكراه التجار بالبيع بثمن المثل.
وعندها يكون التسعير جائزا؛ لوجود الحاجة والضرورة، حيث تتطلب الضرورة، أو المصلحة الاجتماعية تَدَخُّلَ ولي الأمر؛ لرفع الظلم الذي تسبب فيه جشع التجار، مستغلين حاجة الناس، فعدم التسعير في هذه الحالة يؤدي إلى ضرر العامة، والذي يشخص الضرورة الاجتماعية، أو المصلحة الاجتماعية العليا هو ولي الأمر العادل، عبر تشاوره مع ذوي الخبرة، حيث تكون الدراسة المستفيضة للسوق والسلع والأحوال وغير ذلك من أمور فيكون التوازن بين التجار والمستهلكين، قال المرغيناني-رحمه الله-: {إن كان أرباب الطعام يتحكمون، ويتعدون عن القيمة تعديًا فاحشًا، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، فحينئذ لا بأس به بمشورة من أهل الرأي والبصيرة} [الهداية (5/ 172].
والخلاصة أن التسعير ممنوع في الحالات الطبيعية، وليس لولي الأمر التدخل في الأسعار فإذا استغل التجار أوضاع الناس، وعثروا حياتهم باحتكارهم وغشهم، وخداعهم، كان التسعير علاجاً لا أصلاً.
قال ابن العربي -رحمه الله-: {الحق التسعير، وضبط الأمر على قانون لا تكون فيه مظلمة على أحد من الطائفتين، وذلك قانون لا يعرف الا بالضبط للأوقات، ومقادير الأحوال، وحال الرجال، والله الموفق للصواب، وما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- حق، وما فعله حكم، لكن على قوم حق ثباتهم، واستسلموا إلى ربهم، وأما قوم قصدوا أكل الناس، والتضيق عليهم فباب الله أوسع وحكمه أمضى} [عارضة الأحوذي 145/1].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الشيخ عبد الباري بن محمد خلة