الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أمّا بعد:
فيقول الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].
فالقرآن شفاء من كل داء بإذن الله تعالى.
والتداوي من الأمراض مطلوب، وله أسباب كثيرة منها الرقية بالقرآن والأدعية وما كان يداوي به النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته.
وحتى تكون الرقية شرعية، فلا بد من شروط ثلاثة:
1- أن تكون بالقرآن والأحاديث والأدعية، وقد وضع النبي -صلى الله عليه وسلم- قاعدة عامة لكل رقية، فعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ -رضيَ اللهُ عنه-، قَالَ: كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ فَقَالَ: {اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ} [رواه مسلم (4/ 1727) رقم 2200].
2- أن تكون باللغة العربية، قَالَ الْمَازِرِيّ -رحمهُ الله-: {جَمِيع الرُّقَى جَائِزَة إِذَا كَانَتْ بِكِتَابِ اللَّه، أَوْ بِذِكْرِهِ، وَمَنْهِيّ عَنْهَا إِذَا كَانَتْ بِاللُّغَةِ الْعَجَمِيَّة، أَوْ بِمَا لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُون فِيهِ كُفْر} [شرح النووي على مسلم (7/ 325)].
3- أن يعتقد المريض أن الشافي هو الله وحده.
قال ابن حجر العسقلاني -رحمه الله-: {َقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز الرُّقَى عِنْد اِجْتِمَاع ثَلَاثَة شُرُوط: أَنْ يَكُون بِكَلَامِ اللَّه تَعَالَى أَوْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاته، وَبِاللِّسَانِ الْعَرَبِيّ أَوْ بِمَا يُعْرَف مَعْنَاهُ مِنْ غَيْره، وَأَنْ يَعْتَقِد أَنَّ الرُّقْيَة لَا تُؤْثَر بِذَاتِهَا بَلْ بِذَاتِ اللَّه تَعَالَى، وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنهَا شَرْطًا، وَالرَّاجِح أَنَّهُ لَا بُدّ مِنْ اِعْتِبَار الشُّرُوط الْمَذْكُورَة} [فتح الباري لابن حجر (16/ 258)].
والأصل أن تكون الرقية بدون مقابل-حسبة- فعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ لِي خَالٌ يَرْقِي مِنَ الْعَقْرَبِ، فَنَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّقَى، قَالَ: فَأَتَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى، وَأَنَا أَرْقِي مِنَ الْعَقْرَبِ، فَقَالَ: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ» [رواه مسلم (4/ 1726) رقم 2199].
واختلف الفقهاء في حكم أخذ الأجرة على الرقية، والراجح جوازها بشرط ألا تكون أجرة فاحشة، يستغل المسلم أخاه، وألا تتخذ مهنة، ومما يدل على جواز أخذ الأجرة:
1- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الحَيِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ، فَأَتَوْهُمْ، فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْقِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ، وَيَقْرَأُ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ، قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْسِمُوا، فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ، فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ: «وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ»، ثُمَّ قَالَ: «قَدْ أَصَبْتُمْ، اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا» فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَقَالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ، سَمِعْتُ أَبَا المُتَوَكِّلِ، بِهَذَا. [رواه البخاري (3/ 92) رقم 2276].
2- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرُّوا بِمَاءٍ، فِيهِمْ لَدِيغٌ أَوْ سَلِيمٌ، فَعَرَضَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ المَاءِ، فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ، إِنَّ فِي المَاءِ رَجُلًا لَدِيغًا أَوْ سَلِيمًا، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ عَلَى شَاءٍ، فَبَرَأَ، فَجَاءَ بِالشَّاءِ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: أَخَذْتَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا، حَتَّى قَدِمُوا المَدِينَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخَذَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ». [رواه البخاري (7/ 131) رقم 5737].
3- عَنْ خَارِجَةَ بْنِ الصَّلْتِ، عَنْ عَمِّهِ، أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ فَأَتَوْهُ، فَقَالُوا: إِنَّكَ جِئْتَ مِنْ عِنْدِ هَذَا الرَّجُلِ بِخَيْرٍ، فَارْقِ لَنَا هَذَا الرَّجُلَ فَأَتَوْهُ بِرَجُلٍ مَعْتُوهٍ فِي الْقُيُودِ، فَرَقَاهُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً، وَكُلَّمَا خَتَمَهَا جَمَعَ بُزَاقَهُ، ثُمَّ تَفَلَ فَكَأَنَّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ فَأَعْطَوْهُ شَيْئًا، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلْ فَلَعَمْرِي لَمَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةٍ بَاطِلٍ، لَقَدْ أَكَلْتَ بِرُقْيَةٍ حَقٍّ». [رواه أبو داود بسند صحيح (3/ 266) رقم 3420].
لكل ما سبق نقول يجوز أخذ المكافأة على الرقية بالضوابط السابقة.
ولا يجوز للراقي أن يستغل حاجة الملهوفين فلا يكلف الفقيرَ ما لا يطيق، بل لا يحرجه فيعالجه حسبة لله بدون مقابل.
وما أخذ أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم الأجرة في قصَّة أبي سعيد الخدري الخدري إلا لسبب شرعي كما في الحديث '...فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْقِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا...' [رواه البخاري (3/ 92) رقم 2276].
فهؤلاء قوم لئام لا بد أن يعاملوا بنقيض عملهم ونيتهم.
أما المسلم الملهوف المضطر المريض فلا ينبغي على الراقي أن يشق عليه، وأن يحمله طاقة فوق طاقته، وليحتسب أمره عند الله، فإن أبى إلا أخذ الأجرة فلا حرج بشرط عدم الاستغلال.
وأخيرًا أنصح كل مريض أن يعالج نفسه بنفسه بالرقى والطب البشري، وألا يذهب إلى الراقين وظني أن قوة الرقية تكون بالنية الحسنة والاعتقاد السليم وحسن التوكل على الله.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
الشيخ عبد الباري بن محمد خلة