الشيخ عبد الباري بن محمد خلة | مقالات | عبادة التفكر

اليوم : الخميس 23 شوَّال 1445 هـ – 02 مايو 2024م
ابحث في الموقع

عبادة التفكر

 الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

 فيقول الله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:191-192].

 قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: 'ومعنى الآية أن الله تعالى يقول: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: هذه في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها، وما فيها من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب وسيارات وثوابت وبحار، وجبال وقفار، وأشجار ونبات، وزروعٍ وثمار، وحيوان ومعادن، ومنافع مختلفة الألوان والطعوم، والروائح والخواص. (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) أي: تعاقُبها وتقارضهُما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيراً، ويقصر الذي كان طويلاً، وكل ذلك تقدير العزيز العليم'. اهـ.

فعبادة التفكر من أرقى العبادات في الإسلام لأن وسيلة التفكر هي مناط التكليف، وهو العقل،

وهذه العبادة تقرب إلى الله تعالى، ويستدل العبد بها على عظمة الله،

ومن الذي يتفكر في خلق السموات والأرض إنهم أولو الألباب، من المؤمنين

أما الكافرون فيحرمون منه، قال الله تعالى:(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ق:37.

وقد أنكر القرآن على الكافرين والماديين عدم تفكرهم وتدبرهم في ملكوت السموات والأرض قال الله تعالى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف:185].

ويتفكر الإنسان في نفسه وهو المخلوق الضعيف، يتفكر في وجسده وروحه، وفي عقله وإدراكه؛ والذي استطاع به أن يبني هذه الحضارة

العقل المحير صغير الحجم كبير الأثر

صنع الإنسانُ الحاسوبَ لكنه قاصر؛ وثبت أن العقل البشري أكمل وأنفع

فالحاسوب يحفظ فقط ولا يميز؛

والذاكرة عند الإنسان أكبر منها في الحاسوب فالعقل البشري يحفظ من المعلومات ما لا يستطيع الحاسوب على يحفظها،

وقال علماء الحاسوب إذا أردنا صناعة حاسوب ذاكرته بحجم العقل البشري حفظاً فقط ومن دون فهم، فلا بد من صناعة حاسوب في حجم الأرض كلها ومع ذلك فهو يحفظ فقط ولا يفهم وصدق الله القائل: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) } [النمل: 88].

وقال الله تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات:21].

ومن صفات المتفكرين سرعتهم في الطاعات، وبعدهم عن المحرمات قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:191].

ومن صفات المشركين عدم التفكر، قال الله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف:105-106].

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس تفكرا وتأملا فعَنْ عطاء قَالَ:

دَخَلْتُ أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: قَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَزُورَنَا فقَالَ: أَقُولُ يَا أُمَّهْ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ: زُرْ غِباً تَزْدَدْ حُبًّا قَالَ: فَقَالَتْ: دَعُونَا مِنْ رَطَانَتِكُمْ هَذِهِ

قَالَ ابْنُ عُمَيْرٍ: أَخْبِرِينَا بِأَعْجَبِ شَيْءٍ رَأَيْتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فَسَكَتَتْ ثُمَّ قَالَتْ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي قَالَ: (يَا عَائِشَةُ ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي) قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجره قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: (أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:191-192 أخرجه ابن حبان في صحيحه بسند حسن

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: 'تفكر ساعة خير من قيام ليلة'.

وقال عمر بن عبد العزيز: 'الفكرة في نعم الله أفضل العبادة'، وبكى -رحمه الله- يوماً بين أصحابه، فسئل عن ذلك فقال: 'فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مراراتُها، ولئن لم يكن فيها عبرةٌ لمن اعتبر، إن فيها مواعظ لمن ادَّكَر' أهـ.

وقال أبو سليمان الداراني- رحمه الله-: 'إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليَّ فيه نعمة، ولي فيه عبرة'.

وقال الله تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [الأعراف:146]

 قال الحسن -رحمه الله-: معناه: 'أمنع قلوبهم التفكر في أمري'،

 وقال بشر الحافي: ' لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوه'،

وهكذا فإن عبادة التفكر من العبادات التي يفتقر إليها الكثيرون منا نحن المسلمين ولو رجع المسلمون إلى قرآن ربهم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لوجدوا آيات كثيرة في هذا الباب ولو عملوا بهذه العبادة لقوي إيمانهم وكانوا إشداء على أعدائهم وانتصروا عليهم فلنرجع إلى هذه العبادة فهي البلس لقوبنا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

      الشيخ عبد الباري بن محمد خلة

 

الأكثر مشاهدة


لقمة الزقوم والقلاش ذوق الطعام من البضاعة قبل الشراء

الورع

الغفلة

الاشتراك في القائمة البريدية