الشيخ عبد الباري بن محمد خلة | مقالات | الشتاء ربيع المؤمن

اليوم : الثلاثاء 7 شوَّال 1445 هـ – 16 أبريل 2024م
ابحث في الموقع

الشتاء ربيع المؤمن

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أمَّا بعد:

فيقول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]

وعن أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-، عَنِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنهُ قالَ: {الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ قَصُرَ نَهَارُهُ فَصَامَ وَطَالَ لَيْلُهُ فَقَامَ} [رواه البيهقي بسند ضعيف (4/489) رقم8456]

فكيف يستثمر المسلم ليل الشتاء ونهاره؟

الشتاء ربيع المؤمن، يرتع فيه في بساتين الطاعة، فالمسلم يقدر على الطاعة فيه بيسر الصيام والقيام، حيث لا جوع ولا تعب، فالنهار قصير، والليل طويل، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يفرحون بقدومه، ويعتون به، فعنِ ابنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قالَ: {مَرْحَبَاً بِالشِّتَاءِ، تَنْزِلُ فيهِ البَرَكَةُ وَيَطُولُ فيهِ الليلُ لِلْقِيَامِ، ويَقْصرُ فيهِ النَّهَارُ لِلصِّيَام} [رواه الديلمي بسند ضعيف].

قال ابن رجب- رحمه الله-: {إنما كان الشتاء ربيع المؤمن؛ لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه كما ترتع البهائم في مرعى الربيع فتسمن وتصلح أجسادها فكذلك يصلح دين المؤمن في الشتاء بما يسر الله فيه من الطاعات، فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة ولا كلفة تحصل له من جوع ولا عطش، فإن نهاره قصير بارد فلا يحس فيه بمشقة الصيام} [لطائف المعارف (ص: 326)].

وقال الحسن البصْرِي: {نِعْمَ زَمَانُ المؤمِنِ الشِّتَاءُ ليلُهُ طويلٌ يَقُومُهُ، وَنَهَارُهُ قَصِيرٌ يَصُومُهُ}.

وكان أحد الصَالحين إِذا جاء الشّتاءُ يقول: {يَا أهلَ القُرْءَانِ، طَالَ لَيلُكُمْ لِقِرَاءَتِكُمْ فَاقْرَؤُوا، وَقَصرَ النَّهارُ لِصِيامِكُمْ فَصُومُوا}.

فيا حبذا الصيام في الشتاء، فلنحرص على الإكثار من الصيام فيه، فهو فرصة العمر، فرصة كريمة لمريد الأجر والثواب، فمن عليه نذر أو كفارة، فليبادر إلى الصيام فيه

وعَنْ عَامِرِ بِنِ مَسعودٍ -رضيَ اللهُ عنه-عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: «الغنيمَةُ البَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ» [رواه الترمذي بسند صحيح (2/ 154) رقم 797].

وعن أَبي هُرَيْرَةَ ' أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى الْغَنِيمَةِ الْبَارِدَةِ قَالَ: قُلْنَا وَمَا ذَلِكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ. [رواهُ البيهقي بسند ضعيف (4/ 489) رقم8455].

قالَ ابنُ رَجَبٍ الحنبَلِيُّ -رحمه الله-: {قِيَامُ لَيْلِ الشِّتَاءِ يَعْدِلُ صِيامَ نَهارِ الصَّيْفِ} [لطائف المعارف (ص: 327)].

وعَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي الله عنه- أنه قالَ: {الشِّتَاءُ غَنِيمَةُ العَابِدِينَ} [رواهُ أبو نعيم بسند صحيحٍ (1/51)].

وعَنْ قَتَادَةَ -رحمه الله-، {أَنَّ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ قَيْسٍ، لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ جَعَلَ يَبْكِي، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟، قَالَ: مَا أَبْكِي جَزَعًا مِنَ الْمَوْتِ وَلَا حِرْصًا عَلَى الدُّنْيَا، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى ظَمَأِ الْهَوَاجِرِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ فِي الشِّتَاء} [رواه البيهقي (5/ 420) رقم 3648].

ذلك أن للعبادة لذة من وجدها وجد كل شيء، ومن حرمها حرم الخير الكثير، قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهب -رحمه الله-: {كُلُّ مَلْذُوذٍ إِنَّمَا لَهُ لَذَّةٌ وَاحِدَةٌ، إِلاَّ العِبَادَةَ فَإِنَّ لَهَا ثَلاثَ لَذَّاتٍ: إِذَا كُنْتَ فِيهَا، وَإِذَا تَذَكَّرْتَهَا، وَإِذَا أُعطِيتَ ثوابَها}.

وكانَ أَبو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- يَقُولُ: {جَزَّأْتُ الليلَ ثَلاثَةَ أَجْزاء: ثُلُثًا أُصَلِّي، وَثُلُثًا أنَامُ، وَثُلُثًا أَذْكُرُ فيهِ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-} [رواه محمد بن نصر المروزي (1/100)].

قال يحيى بن معاذ-رحمه الله-: {الليل طويل فلا تقصّرْه بمنامك، والإسلام نقيّ فلا تُدنسّه بآثامك}.

 وقال معضد-رحمه الله-: {لولا ثلاث: ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ولذاذة التهجد بكتاب الله ما تمنيت أن أكون يعسوباً} (أي ما تمنيت أن أكون شيئاً ولو ذَكَر النحل).

وعلى المسلم أن يسبغ الوضوء في أيام البرد، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضيَ اللهُ عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: {أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ} [رواه مسلم (1/ 219) رقم 251].

ووصى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولده فقال: {أسبغ الوضوء في اليوم الشاتي}، والمسلم يستعد لفصل الشتاء بما يحميه من البرد؛ ليتقوى على العبادة، كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول للناس: {إن الشتاء قد حضر فتأهّبوا له أهبته من الصوف والخِفاف والجوارب}.

وهكذا ينبغي للمسلم أن يستثمر هذا الفصل، وهذه الغنيمة، فلا تخطئه من غير إفادة، فصم النهار، وقم الليل، فاغتنم ذلك، وتذكر حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي يرويه ابْن عَبَّاسٍ -رضي الله عنه-عن النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» [رواه البخاري (8/88) رقم 6412].

 فسيأتي اليوم الذي لا تستطيع فيه العبادة، أو تثقل عليك العبادة، فخذ هذه الأوقات زاداً إلى الله وإلى الدار الآخرة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

             الشيخ عبد الباري بن محمد خلة

الأكثر مشاهدة


لقمة الزقوم والقلاش ذوق الطعام من البضاعة قبل الشراء

الورع

الغفلة

الاشتراك في القائمة البريدية