الشيخ عبد الباري بن محمد خلة | مقالات | العبــادة الصامتـة

اليوم : الجمعة 9 ذو القعدة 1445 هـ – 17 مايو 2024م
ابحث في الموقع

العبــادة الصامتـة


أولا: حكم قراءة القرآن

قراءة القرآن عبادة من أجل العبادات وترك القراءة بالكلية صورة من صور هجر القرآن التي حذر القرآن منه، قال الله تعالى: ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ) الفرقان/30-31

فهجر القرآن هو من أعمال الكفار وشأنهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ' من هجر القرآن فهو من أعداء الرسول ' مجموع الفتاوى ' (4/106).

ومن فرط في تلاوته، أو تدبره، أو العمل به فقد هجره بنوع من الهجران

قال ابن القيم رحمه الله: ' هجر القرآن أنواع:

أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.

والثاني: هجر العمل به، والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.

والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم.

والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.

والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به.

وكل هذا داخل في قوله: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ) الفرقان/30-31 وإن كان بعض الهجر أهون من بعض '. الفوائد ' (ص/82)

والأصل في المسلم أن يحافظ على تلاوة القرآن، بحسب استطاعته ؛ قال الله تعالى: ( اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ )، وقال: ( وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ )، وقال: ( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ )،

وعَنْ أَبِي سَلَّامٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ' اقْرَءُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي شَافِعًا لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ: الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا، وَاقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ أخرجه أحمد بسند صحيح.

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى مخبرا عن رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا )، وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه، كما قال تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ )، فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعوه، فهذا من هجرانه، وترك الإيمان به وترك تصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه '. تفسير ابن كثير (6 / 117).

ثانيا: حكم سماع القرآن

وأما سماع القرآن فهي عبادة أيضا، فيستحب الاستماع إلى القرآن كما تستحب قراءته سواء أكان الاستماع من المذياع أو من المسجل أو من غيرهما، وهذا لا يتعارض هذا مع قول الله تعالى: ( فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ )؛ حيث يكون الإنصات بحسب المستطاع.

كما ويجوز الاستماع له أثناء العمل، والمذاكرة، فإما أن يستمع الشخص نفسه وإما أن يستمع العوالم الآخرون كالملائكة والجن وغيرهما من خلق الله

والإنصات المأمور به خاص بالصلاة وخطبة الجمعة، فهو واجب أما في غيرهما فهو مستحب.

وسماع القرآن عبادة صامتة يغفل عنها الكثيرون من المسلمين اليوم قال الله تعالى: 'وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ'(الأعراف: 204).

وقد حذر المشركون أتباعهم من الاستماع إلى القرآن لما يعلمون من صدقـه وتأثيره  على القلوب قــال الله تعالى: 'وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ' (فصلت: 12).

وكان الصديق رضي الله عنه يقرأ القرآن وكان يصلــي فيــــه وكان رجـــلا أسيفا إذا قـــــرأ الــــقرآن لا يتمالك نفسه من البكاء فيـــــقف العبيد والصبيـــــان والنســـــاء يستمعون إليه فيعجبـــــون به ولما شعر المشركون بخطورة ذلك منعوا أبا بكر من القراءة

وقـد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على المشركين واستموا إليه وخافوا أن ينزل عليهم العذاب حيث تـــــلا عليهم مرة سورة فصلت حتى وصل إلى قول الله تعالى: 'فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ' (فصلت: 13).

فوضــع الوليد يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم وناشده الله والرحم ألا يكمل. ثم قال: سمعت منه كلامــا ليس من كلام الجن ولا من كلام الإنس والله إن له لحــلاوة وإن عليه لطــلاوة وإن أعلاه لمثمــر وان أسفله لمغــدق وإنه يعلــو ولا يُعلــى عليــه.

وهذا بمجرد السماع فمــا بال المؤمنين اليوم؟

وإن النبي صلي الله عليه وسلم كان يحب سماع القرآن من غيره فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلي الله عليه وسلم: 'اقرأ عليَّ القرآن' فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟، قال: 'إني أحب أن أسمعه من غيري'، فقرأت عليه سورة النساء، حتى جئت إلى هذه الآية: 'فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا' (النساء: 41). قال: 'حسبك الآن'، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان' (متفق عليه).

وقد تعدى الاستماع للقرآن من الإنس إلى الجن حيث استمعوا إليه بتدبر وخشوع وتأثروا به قال الله تعالى: 'قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا' (الجن:1-2)؛ وقال الله تعالى: 'وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْسًا وَلاَ رَهَقًا' (الجن: 13).

وتعــــدى تأثير القـــــرآن إلى الحيوانــــات فلقد نعــى الله تعالى على الكفار في عدم استجابتهم وسماعهم للقرآن قـــال الله تعالى: 'وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ' (الأعراف: 179).

وقال أيضا: 'فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي العمي عَنْ ضَلاَلَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُون' (الروم: 52-53).

وقد سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَحْسَنُ صَوْتًا لِلْقُرْآنِ؟ وَأَحْسَنُ قِرَاءَةً؟ قَالَ: «مَنْ إِذَا سَمِعْتَهُ يقْرَأ أَرَأَيْت أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ». قَالَ طَاوُوسٌ: وَكَانَ طَلْقٌ كَذَلِك. رَوَاهُ الدَّارمِيّ بسند صحيح.

وهذه العبادة من أيسر العبادات حيث لا يشترط لها شروط ولا تحتاج إلى كبير جهد فتستطيع أن تسمع القرآن في البيت وفي العمل وفي السيارة وعلى كل حال قائمًا أو قاعدا أو مضجعًا.

والأفضل للإنسان المسلم أن يتدبر القرآن عند القراءة والاستماع يقول الإمام النووي رحمه الله ‏:‏ البكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين وشعار الصالحين ويستحب البكاء مع القراءة والسماع

وآداب هذه العبادة الصامتة هي نفسها آداب قراءة القرآن من الطهارة الكاملة واستقبال القبلة والمكان الطاهر والخشوع والخضوع إلى غير ذلك من آداب غير أنه يجوز للمسلم أن يستمع حتى وإن امتنعت هذه الآداب.

وإن أثرها عظيم على الفرد المسلم حيث يستطيع أن يتعبد الله في كل وقت وحين من غير مشقة ولا تعب.

لكن هذه العبادة – أعني السماع لا يغني عن القراءة فكما أن القراءة مطلوبة فالاستماع مطلوب والأفضل للمسلم أن ينوع في العبادات حتى لا تمل النفس فيقرأ مرة ويستمع أخرى فيجمع بين العبادتين وينال الفضلين

وأخيرا أسأل الله أن يعيننا والمسلمين على قراءة القرآن وسماعه والعمل به والدعوة إليه.

         الشيخ عبد الباري بن محمد خلة

 

 

الأكثر مشاهدة


لقمة الزقوم والقلاش ذوق الطعام من البضاعة قبل الشراء

الورع

الغفلة

الاشتراك في القائمة البريدية