الشيخ عبد الباري بن محمد خلة | مقالات | لا عدوى ولا طيرة ولا صفر

اليوم : الأحد 26 شوَّال 1445 هـ – 05 مايو 2024م
ابحث في الموقع

لا عدوى ولا طيرة ولا صفر

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

فمن عقيدة أهل السنة والجماعة الاعتقاد بأن كل شيء بقدر الله وأن النافع الضار هو الله وحده.

قال الله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }التوبة51

وقال: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ }إبراهيم12

وقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ }الزمر38

وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ رواه الترمذي بسند صحيح.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ' لَا عَدْوَى وَلَا هَامَةَ وَلَا نَوْءَ وَلَا صَفَرَ '. رواه مسلم.

وعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ' لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا غُولَ '. رواه مسلم.

وعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ' لَا عَدْوَى وَلَا غُولَ وَلَا صَفَرَ '. رواه مسلم.

وعن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: ' لاَ طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الْفأْلُ ' قَالُوا: وَمَا الْفأْلُ قَالَ: ' الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةِ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ '. أخرجه البخاري.

عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ' لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ '. رواه مسلم.

 وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ' لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ ' قَالَ: قِيلَ وَمَا الْفَأْلُ: قَالَ: ' الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ '. رواه مسلم.

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ' الشُّؤْمُ فِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ '. رواه مسلم.

 وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ' لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَإِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ الْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ وَالدَّارِ '. رواه مسلم.

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الطِّيَرَةُ شِرْكٌ الطِّيَرَةُ شِرْكٌ ». ثَلاَثًا « وَمَا مِنَّا إِلاَّ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ ». رواه أبو داود بسند صحيح.

علاج الطيرة والتشاؤم:

عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ الْقُرَشِيِّ قَالَ: { ذُكِرَتْ الطِّيَرَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَحْسَنُهَا الْفَأْلُ وَلَا تَرُدَّ مُسْلِمًا، فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلَّا أَنْتَ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إلَّا أَنْتَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك } قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الدِّمَشْقِيُّ: وَلَا صُحْبَةَ لِعُرْوَةِ الْقُرَشِيِّ تَصِحُّ. رواه أبو داود بسند ضعيف.

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ فِي آخِرِهِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وضعفه الألباني

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ فَقَدْ أَشْرَكَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ قَالَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ رواه أحمد بسند صحيح.

الْجُذَام: بِضَمِّ الْجِيم وَتَخْفِيف الْمُعْجَمَة، هُوَ عِلَّة رَدِيئَة تَحْدُث مِنْ اِنْتِشَار الْمِرَّة السَّوْدَاء فِي الْبَدَن كُلّه فَتُفْسِد مِزَاج الْأَعْضَاء، وَرُبَّمَا أَفْسَدَ فِي آخِره إِيصَالهَا حَتَّى يَتَأَكَّل.

قَوْله: ( لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَة وَلَا هَامَة وَلَا صَفَر )

فَالْحَاصِل مِنْ ذَلِكَ سِتَّة أَشْيَاء: الْعَدْوَى وَالطِّيَرَة وَالْهَامَة وَالصَّفَر وَالْغُول وَالنَّوْء.

أَمَّا الْغُول: فَقَالَ الْجُمْهُور: كَانَتْ الْعَرَب تَزْعُم أَنَّ الْغِيلَان فِي الْفَلَوَات، وَهِيَ جِنْس مِنْ الشَّيَاطِين تَتَرَاءَى لِلنَّاسِ وَتَتَغَوَّل لَهُمْ تَغَوُّلًا أَيْ تَتَلَوَّن تَلَوُّنًا فَتَضِلّهُمْ عَنْ الطَّرِيق فَتُهْلِكهُمْ.

فَأَبْطَلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَاد إِبْطَال وُجُود الْغِيلَان، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ إِبْطَال مَا كَانَتْ الْعَرَب تَزْعُمهُ مِنْ تَلَوُّن الْغُول بِالصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَة، قَالُوا: وَالْمَعْنَى لَا يَسْتَطِيع الْغُول أَنْ يُضِلّ أَحَدًا. وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث ' إِذَا تَغَوَّلَتْ الْغِيلَان فَنَادُوا بِالْأَذَانِ ' أَيْ اِدْفَعُوا شَرّهَا بِذَكَرِ اللَّه. وَفِي حَدِيث أَبِي أَيُّوب عِنْد قَوْله: ' كَانَتْ لِي سَهْوَة فِيهَا تَمْر، فَكَانَتْ الْغُول تَجِيء فَتَأْكُل مِنْهُ ' الْحَدِيث.

وَأَمَّا النَّوْء: وَكَانُوا يَقُولُونَ: ' مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا ' فَأَبْطَلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَطَر إِنَّمَا يَقَع بِإِذْنِ اللَّه لَا بِفِعْلِ الْكَوَاكِب، وَإِنْ كَانَتْ الْعَادَة جَرَتْ بِوُقُوعِ الْمَطَر فِي ذَلِكَ الْوَقْت، لَكِنْ بِإِرَادَةِ اللَّه تَعَالَى وَتَقْدِيره، لَا صُنْع لِلْكَوَاكِبِ فِي ذَلِكَ، وَاَللَّه أَعْلَم.

قَوْله: ( وَفِرَّ مِنْ الْمَجْذُوم كَمَا تَفِرّ مِنْ الْأَسَد ) قَالَ عِيَاض: اِخْتَلَفَتْ الْآثَار فِي الْمَجْذُوم، فَجَاءَ مَا تَقَدَّمَ عَنْ جَابِر ' أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ مَعَ مَجْذُوم وَقَالَ: ثِقَة بِاَللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ ' قَالَ فَذَهَبَ عُمَر وَجَمَاعَة مِنْ السَّلَف إِلَى الْأَكْل مَعَهُ وَرَأَوْا أَنَّ الْأَمْر بِاجْتِنَابِهِ مَنْسُوخ. وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ عِيسَى بْن دِينَار مِنْ الْمَالِكِيَّة، قَالَ: وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر وَيَتَعَيَّن الْمَصِير إِلَيْهِ أَنْ لَا نَسْخ، بَلْ يَجِب الْجَمْع بَيْن الْحَدِيثَيْنِ وَحَمْل الْأَمْر بِاجْتِنَابِهِ وَالْفِرَار مِنْهُ عَلَى الِاسْتِحْبَاب وَالِاحْتِيَاط، وَالْأَكْل مَعَهُ عَلَى بَيَان الْجَوَاز ا ه

 وَعَائِشَة أَنْكَرَتْ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ عَنْهَا ' أَنَّ اِمْرَأَة سَأَلَتْهَا عَنْهُ فَقَالَتْ: مَا قَالَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: لَا عَدْوَى، وَقَالَ: فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّل ؟ قَالَتْ: وَكَانَ لِي مَوْلًى بِهِ هَذَا الدَّاء فَكَانَ يَأْكُل فِي صِحَافِي وَيَشْرَب فِي أَقْدَاحِي وَيَنَام عَلَى فِرَاشِي '

أما قوله: ' لَا تُدِيمُوا النَّظَر إِلَى الْمَجْذُومِينَ ' وَقَدْ أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ وَسَنَده ضَعِيف.

وقوله: ' كَلِّمْ الْمَجْذُوم وَبَيْنك وَبَيْنه قَيْد رُمْحَيْنِ ' أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْم بِسَنَدٍ وَاهٍ.

وروي أن عُمَر قَالَ لِمُعَيْقِيب: اِجْلِسْ مِنِّي قَيْد رُمْح ' وهو ضعيف.

 وَفِي طَرِيق الْجَمْع مَسَالِك أُخْرَى:

أَحَدهَا: نَفْي الْعَدْوَى جُمْلَة وَحَمْل الْأَمْر بِالْفِرَارِ مِنْ الْمَجْذُوم عَلَى رِعَايَة خَاطِر الْمَجْذُوم، لِأَنَّهُ إِذَا رَأَى الصَّحِيح الْبَدَن السَّلِيم مِنْ الْآفَة تَعْظُم مُصِيبَته وَتَزْدَاد حَسْرَته، وَنَحْوه حَدِيث ' لَا تُدِيمُوا النَّظَر إِلَى الْمَجْذُومِينَ ' فَإِنَّهُ مَحْمُول عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.

ثَانِيهَا: حَمْل الْخِطَاب بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَات عَلَى حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، فَحَيْثُ جَاءَ ' لَا عَدْوَى ' كَانَ الْمُخَاطَب بِذَلِكَ مَنْ قَوِيَ يَقِينه وَصَحَّ تَوَكُّله بِحَيْثُ يَسْتَطِيع أَنْ يَدْفَع عَنْ نَفْسه اِعْتِقَاد الْعَدْوَى، كَمَا يَسْتَطِيع أَنْ يَدْفَع التَّطَيُّر الَّذِي يَقَع فِي نَفْس كُلّ أَحَد، لَكِنْ الْقَوِيّ الْيَقِين لَا يَتَأَثَّر بِهِ، وَهَذَا مِثْل مَا تَدْفَع قُوَّة الطَّبِيعَة الْعِلَّة فَتُبْطِلهَا، وَعَلَى هَذَا يُحْمَل حَدِيث جَابِر فِي أَكْل الْمَجْذُوم مِنْ الْقَصْعَة وَسَائِر مَا وَرَدَ مِنْ جِنْسه، وَحَيْثُ جَاءَ ' فِرَّ مِنْ الْمَجْذُوم ' كَانَ الْمُخَاطَب بِذَلِكَ مَنْ ضَعُفَ يَقِينه، وَلَمْ يَتَمَكَّن مِنْ تَمَام التَّوَكُّل فَلَا يَكُون لَهُ قُوَّة عَلَى دَفْع اِعْتِقَاد الْعَدْوَى، فَأُرِيدَ بِذَلِكَ سَدُّ بَاب اِعْتِقَاد الْعَدْوَى عَنْهُ بِأَنْ لَا يُبَاشِر مَا يَكُون سَبَبًا لِإِثْبَاتِهَا.

ثَالِث الْمَسَالِك: قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر الْبَاقِلَّانِيّ: إِثْبَات الْعَدْوَى فِي الْجُذَام وَنَحْوه مَخْصُوص مِنْ عُمُوم نَفْي الْعَدْوَى، قَالَ: فَيَكُون مَعَنِي قَوْله: ' لَا عَدْوَى ' أَيْ إِلَّا مِنْ الْجُذَام وَالْبَرَص وَالْجَرَب مَثَلًا، قَالَ: فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا يُعْدِي شَيْء شَيْئًا إِلَّا مَا تَقَدَّمَ تَبْيِينِي لَهُ أَنَّ فِيهِ الْعَدْوَى.

رَابِعهَا: أَنَّ الْأَمْر بِالْفِرَارِ مِنْ الْمَجْذُوم لَيْسَ مِنْ بَاب الْعَدْوَى فِي شَيْء، بَلْ هُوَ لِأَمْرٍ طَبِيعِيّ وَهُوَ اِنْتِقَال الدَّاء مِنْ جَسَد لِجَسَدٍ بِوَاسِطَةِ الْمُلَامَسَة وَالْمُخَالَطَة وَشَمِّ الرَّائِحَة، وَلِذَلِكَ يَقَع فِي كَثِير مِنْ الْأَمْرَاض فِي الْعَادَة اِنْتِقَال الدَّاء مِنْ الْمَرِيض إِلَى الصَّحِيح بِكَثْرَةِ الْمُخَالَطَة، وَهَذِهِ طَرِيقَة اِبْن قُتَيْبَة فَقَالَ: الْمَجْذُوم تَشْتَدّ رَائِحَته حَتَّى يُسْقِم مَنْ أَطَالَ مُجَالَسَته وَمُحَادَثَته وَمُضَاجَعَته، وَكَذَا يَقَع كَثِيرًا بِالْمَرْأَةِ مِنْ الرَّجُل وَعَكْسه، وَيَنْزِع الْوَلَد إِلَيْهِ، وَلِهَذَا يَأْمُر الْأَطِبَّاء بِتَرْكِ مُخَالَطَة الْمَجْذُوم لَا عَلَى طَرِيق الْعَدْوَى بَلْ عَلَى طَرِيق التَّأَثُّر بِالرَّائِحَةِ لِأَنَّهَا تُسْقِم مَنْ وَاظَبَ اِشْتِمَامهَا، قَالَ: وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ' لَا يُورِد مُمْرِض عَلَى مُصِحّ ' لِأَنَّ الْجَرَب الرَّطْب قَدْ يَكُون بِالْبَعِيرِ، فَإِذَا خَالَطَ الْإِبِل أَوْ حَكَّكَهَا وَأَوَى إِلَى مَبَارِكهَا وَصْل إِلَيْهَا بِالْمَاءِ الَّذِي يَسِيل مِنْهُ، وَكَذَا بِالنَّظَرِ نَحْو مَا بِهِ.

 قَالَ: وَأَمَّا قَوْله: ' لَا عَدْوَى ' فَلَهُ مَعْنًى آخَر، وَهُوَ أَنْ يَقَع الْمَرَض بِمَكَانٍ كَالطَّاعُونِ فَيَفِرّ مِنْهُ مَخَافَة أَنْ يُصِيبهُ، لِأَنَّ فِيهِ نَوْعًا مِنْ الْفِرَار مِنْ قَدَر اللَّه.

الْمَسْلَك الْخَامِس: أَنَّ الْمُرَاد بِنَفْيِ الْعَدْوَى أَنَّ شَيْئًا لَا يُعْدِي بِطَبْعِهِ نَفْيًا لِمَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَعْتَقِدهُ أَنَّ الْأَمْرَاض تُعْدِي بِطَبْعِهَا مِنْ غَيْر إِضَافَة إِلَى اللَّه، فَأَبْطَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِعْتِقَادهمْ ذَلِكَ وَأَكَلَ مَعَ الْمَجْذُوم لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّه هُوَ الَّذِي يُمْرِض وَيَشْفِي، وَنَهَاهُمْ عَنْ الدُّنُوّ مِنْهُ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ الْأَسْبَاب الَّتِي أَجْرَى اللَّه الْعَادَة بِأَنَّهَا تُفْضِي إِلَى مُسَبَّبَاتهَا، فَفِي نَهْيه إِثْبَات الْأَسْبَاب، وَفِي فِعْله إِشَارَة إِلَى أَنَّهَا لَا تَسْتَقِلّ، بَلْ اللَّه هُوَ الَّذِي إِنْ شَاءَ سَلَبَهَا قُوَاهَا فَلَا تُؤَثِّر شَيْئًا، وَإِنْ شَاءَ أَبْقَاهَا فَأَثَّرَتْ، وَيَحْتَمِل أَيْضًا أَنْ يَكُون أَكْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْمَجْذُوم أَنَّهُ كَانَ بِهِ أَمْر يَسِير لَا يُعْدِي مِثْله فِي الْعَادَة، إذْ لَيْسَ الْجَذْمَى كُلّهمْ سَوَاء، وَلَا تَحْصُل الْعَدْوَى مِنْ جَمِيعهمْ بَلْ لَا يَحْصُل مِنْهُ فِي الْعَادَة عَدْوَى أَصْلًا كَاَلَّذِي أَصَابَهُ شَيْء مِنْ ذَلِكَ وَوَقَفَ فَلَمْ يَعُدْ بَقِيَّة جِسْمه فَلَا يُعْدِي.

الْمَسْلَك السَّادِس: الْعَمَل بِنَفْيِ الْعَدْوَى أَصْلًا وَرَأْسًا، وَحَمْل الْأَمْر بِالْمُجَانَبَةِ عَلَى حَسْم الْمَادَّة وَسَدّ الذَّرِيعَة لِئَلَّا يَحْدُث لِلْمُخَالِطِ شَيْء مِنْ ذَلِكَ فَيَظُنّ أَنَّهُ بِسَبَبِ الْمُخَالَطَة فَيُثْبِت الْعَدْوَى الَّتِي نَفَاهَا الشَّارِع، وَإِلَى هَذَا الْقَوْل ذَهَبَ أَبُو عُبَيْد وَتَبِعَهُ جَمَاعَة فَقَالَ أَبُو عُبَيْد: لَيْسَ فِي قَوْله: ' لَا يُورِد مُمْرِض عَلَى مُصِحّ ' إِثْبَات الْعَدْوَى، بَلْ لِأَنَّ الصِّحَاح لَوْ مَرِضَتْ بِتَقْدِيرِ اللَّه تَعَالَى رُبَّمَا وَقَعَ فِي نَفْس صَاحِبهَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْعَدْوَى فَيُفْتَتَن وَيَتَشَكَّك فِي ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِاجْتِنَابِهِ. قَالَ: وَكَانَ بَعْض النَّاس يَذْهَب إِلَى أَنَّ الْأَمْر بِالِاجْتِنَابِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَخَافَةِ عَلَى الصَّحِيح مِنْ ذَوَات الْعَاهَة، قَالَ: وَهَذَا شَرّ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ الْحَدِيث، لِأَنَّ فِيهِ إِثْبَات الْعَدْوَى الَّتِي نَفَاهَا الشَّارِع، وَلَكِنَّ وَجْه الْحَدِيث عِنْدِي مَا ذَكَرْته.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمَجْذُومِينَ إِذَا كَثُرُوا هَلْ يُمْنَعُونَ مِنْ الْمَسَاجِد وَالْمَجَامِع ؟ وَهَلْ يُتَّخَذ لَهُمْ مَكَان مُنْفَرِد عَنْ الْأَصِحَّاء ؟ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي النَّادِر أَنَّهُ لَا يُمْنَع وَلَا فِي شُهُود الْجُمُعَة. فتح الباري: ابن حجر.

وَلَا هَامَةَ: قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي النِّهَايَةِ: الْهَامَةُ الرَّأْسُ وَاسْمُ طَائِرٍ وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَشَاءَمُونَ بِهَا وَهِيَ مِنْ طَيْرِ اللَّيْلِ، وَقِيلَ هِيَ الْبُومَةُ. وَقِيلَ كَانَتْ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ رُوحَ الْقَتِيلِ الَّذِي لَا يُدْرَكُ بِثَأْرِهِ تَصِيرُ هَامَةً فَتَقُولُ اِسْقُونِي فَإِذَا أُدْرِكَ بِثَأْرِهِ طَارَتْ. وَقِيلَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ عِظَامَ الْمَيِّتِ وَقِيلَ رُوحُهُ تَصِيرُ هَامَةً فَتَطِيرُ وَيُسَمُّونَهُ الصَّدَى، فَنَفَاهُ الْإِسْلَامُ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ اِنْتَهَى.

( وَلَا صَفَرَ ) قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ: هُوَ دَاءٌ يَأْخُذُ الْبَطْنَ، وعَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ الْجَرْمِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ رُؤْبَةَ بْنَ الْعَجَّاجِ فَقَالَ: هِيَ حَيَّةٌ تَكُونُ فِي الْبَطْنِ تُصِيبُ الْمَاشِيَةَ وَالنَّاسَ وَهِيَ أَعْدَى مِنْ الْجَرَبِ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِنَفْيِ الصَّفَرِ مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ فِيهِ مِنْ الْعَدْوَى. وَرَجَحَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ هَذَا الْقَوْلُ لِكَوْنِهِ قُرِنَ فِي الْحَدِيثِ بِالْعَدْوَى.

وَالصَّفَرُ: دُودٌ يَكُونُ فِي الْجَوْفِ فَرُبَّمَا عَضَّ الضِّلْعَ أَوْ الْكَبِدَ فَقَتَلَ صَاحِبَهُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالصَّفَرِ الْحَيَّةُ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ نَفْيُ مَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَنْ أَصَابَهُ قَتَلَهُ، فَرَدَّ ذَلِكَ الشَّارِعُ بِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا فَرَغَ الْأَجَلُ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا التَّفْسِيرُ عَنْ جَابِرٍ وَهُوَ أَحَدُ رُوَاةِ حَدِيثِ لَا صَفَرَ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ.

 وَقِيلَ فِي الصَّفَرِ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ شَهْرُ صَفَرَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُحَرِّمُ صَفَرَ وَتَسْتَحِلُّ الْمُحَرَّمَ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ بِرَدِّ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ. تحفة الأحوذي

وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ رواه الترمذي بسند صحيح.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

                الشيخ عبد الباري بن محمد خلة

الأكثر مشاهدة


لقمة الزقوم والقلاش ذوق الطعام من البضاعة قبل الشراء

الورع

الغفلة

الاشتراك في القائمة البريدية