الشيخ عبد الباري بن محمد خلة | مقالات | إفشاء الأسرار في الإسلام ورأي الشرع فيه

اليوم : الجمعة 9 ذو القعدة 1445 هـ – 17 مايو 2024م
ابحث في الموقع

إفشاء الأسرار في الإسلام ورأي الشرع فيه


الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

فالسِّرُّ هو الحديث المُكَتَّمُ في النفس كما قال الراغب الأصفهاني: الذريعة إلى مكارم الشريعة

وحفظ الأسرار من الإيمان وهو شيء فطري في الإنسان في العلاقات الاجتماعية

وحفظ السر من أعظم أسباب النجاح ، فيجب على كل واحد أن يحفظ سره ولا يفشيه فهو أمانة من أشد الأمانات فلا مكان للفضيلة إذا تفشت الأسرار

وحياة النبي حافلة في حفظ الأسرار والحث عليه فعَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ : أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْفِتْنَةِ ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ : أَنَا أَحْفَظُ كَمَا قَالَ ! قَالَ : هَاتِ إِنَّكَ لَجَرِيءٌ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ ) قَالَ : لَيْسَتْ هَذِهِ وَلَكِنْ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ . قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا بَأْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا . قَالَ يُفْتَحُ الْبَابُ أَوْ يُكْسَرُ ! قَالَ : لَا بَلْ يُكْسَرُ . قَالَ : ذَاكَ أَحْرَى أَنْ لَا يُغْلَقَ . قُلْنَا عَلِمَ عُمَرُ الْبَابَ . قَالَ : نَعَمْ كَمَا أَنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ إِنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ وَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ : مَنْ الْبَابُ ؟ قَالَ : عُمَرُ رواه البخارى .

قال ابن المنير- رحمه الله - : آثر حذيفة الحرص على حفظ السر ولم يُصَرِحْ لعمر بما سأل عنه .. ابن حجر: فتح البارى .

وعَنْ أَنَسٍ قَالَ أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ قَالَ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ مَا حَبَسَكَ قُلْتُ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَةٍ قَالَتْ مَا حَاجَتُهُ قُلْتُ إِنَّهَا سِرٌّ قَالَتْ لَا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا قَالَ أَنَسٌ وَاللَّهِ لَوْ حَدَّثْتُ بِهِ أَحَدًا لَحَدَّثْتُكَ يَا ثَابِتُ رواه مسلم

وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِىَ أَمَانَةٌ ». رواه أبو داود بسند حسن

وقد اقتدى سلفنا الصالح بالنبي في هذا الخلق

فهذا حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنهما - أمين سِرِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنافقين، وكان يقال له: صاحب السِّر الذي لا يعلمه أحدٌ غيره

وقال الحسن : إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك .

ويروى أن معاوية رضي الله عنه أسر الى الوليد بن عتبه حديثاً , فقال لأبيه : يا أبت إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثاً وما أراه يطوي عنك ما بسطه إلى غيرك ؟ قال : لا تحدثني به فإن من كتم سره كان الخيار له ومن أفشاه كان الخيار عليه ,قال :قلت يا أبت وإن هذا ليدخل بين الرجل وابنه ؟

فقال لا والله يا بني ولكن أحب أن لا تذلل لسانك بأحاديث السر ,قال فأتيت معاوية فأخبرته فقال : يا وليد أعتقت أباك من رق الخطأ )

وفي الحكمة: 'قلوب العقلاء ، حصون الأسرار'.

ويقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: 'القلوب أوعية الأسرار ، والشفاه أقفالها ، والألسن مفاتيحها ، فليحفظ كلُّ امرئ مفتاح سرِّه'.

وقال الجاحظ : كتمان السر خُلُق مركب من الوقار والأمانة ؛ فإن إخراج السر من فضول الكلام ، وليس بِوَقُورٍ مَنْ تكلم بالفُضُول .

ومن استودع مالاً فلا بد من حفظه ولا يخرجه إلى غير مستحقه لأن ذلك من الأمانة؛ كذلك من استودع الأسرار فلا يفشها

وحفظ الأسـرار أمانة، يجب الوفاء بها، قال الله عز وجل :- ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً ) سورة الإسراء : 34، وقال :- ( وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ) سورة المؤمنون: 8 ..

وإفشاء السر من الكبائر وكتم الأسرار أوكد الودائع

ولماذا يفرط الناس بالمحافظة على حفظ الأسرار يقول الراغب الأصفهاني في ذلك: 'إن للإنسان قوتين: آخذة ، ومعطية وكلتاهما تتشوف إلى الفعل المختص بها، ولولا أن الله ـ تعالى ـ وكَّل المعطية بإظهار ما عندها لما أتاك بالأخبار مَنْ تزوده، فصارت هذه القوة تتشوف إلى فعلها الخاص بها، فعلى الإنسان أن يُمسكها ولا يُطلقها إلا حيثما يجب إطلاقها »  الأصفهاني: كتاب الذريعة إلى مكارم الشريعة

وخلقت الصدور لتكون حرزا للأسرار، والعقل قفلها، كي لا يستطيع احد أن يصل إليها.‏

وعند إفشاء السر تنتقص الأعراض من الأفراد والجماعات فتتعرض كرامة المجتمع للثلم.

وفي الحكمة: 'سرك أسيرك، فإن أفشيته كنتَ أسيره'.‏

ومن أخطر أنواع إفشاء السر نشر أسرار الجماع فليس من مكارم الأخلاق أن يفشي الزوج سره وسر زوجته فعن أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْأَمَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا رواه مسلم .

وقال حكيم لابنه: يا بني لا تجامع زوجتك أمام الناس فقال الابن: وهل يجامع عاقل زوجته أمام الناس ؟ قال:نعم إذا نشر أسرار الفراش لغيره.

عن الحسن رحمه الله قال : إن من الخيانة أن تُحَدِث بسر أخيك

احذر أن يضيق صدرك بسِرِك  وبالله التوفيق

    الشيخ عبد الباري بن محمد خلة

 

الأكثر مشاهدة


لقمة الزقوم والقلاش ذوق الطعام من البضاعة قبل الشراء

الورع

الغفلة

الاشتراك في القائمة البريدية