الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين
اصطفى، وبعد:
فيقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]
ويقول أيضا: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. [البقرة:185]
إن حكمة الله تعالى اقتضت أن يجعل الدنيا مزرعةً للآخرة، وميداناً فسيحا للتنافس، ومن فضل الله تعالى على عباده أن يجزي على القليل كثيراً، ويضاعفَ الأجور، ويجعلَ لعباده مواسم للطاعات، فاللبيب هو الذي يغتنم مواسم الخير، ويتقرَّب فيها إلى خالقه بالطاعة، ويتعرض لنفحات الله عسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها أبد الآبدين، قال الزجاج قال الحسن في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً}. [الفرقان: 62] ' قال من فاتَهُ عَمَلُه من الذِّكْر والشُّكْر بالنهار كان له في الليل مُسْتَعْتَبٌ، ومن فاته بالليل كان له في النهار مُسْتَعْتَبٌ، قال أُراه يَعْنِي وقتَ اسْتِعْتابٍ- أَي- وقتَ طَلَبِ عُتْبى، كأَنه أَراد وقت اسْتِغفار، وفي التنزيل العزيز ' وإِن يُسْتَعْتبُوا فما هم من المُعْتِبِين ' معناه إِن أَقالَهُم اللّهُ تعالى وردَّهم إِلى الدنيا لم يُعْتِبُوا، يقول لم يَعْمَلُوا بطاعةِ اللّهِ لِما سَبَقَ لهم في عِلْمِ اللّهِ من الشَّقاءِ، وهو قول الله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] ومن قرأَ {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت: 24] فمعناه إِن يَسْتَقِيلُوا ربهم لم يُقِلْهم. ابن منظور: لسان العرب (1/ 576)
والله تعالى اختص هذا الشهر، وسمى بابا من أبواب الجنة بالريان الذي يدل على الصيام وفضله، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: 'إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يدْخلُ مِنْهُ الصَّائمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائمُونَ، فَيَقُومُونَ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ' [رواه البخاري (3/25) رقم 1896]
وَعَنْ جَابِرٍ - يَعْنِي ابْنَ سَمُرَةَ - قَالَ: «صَعِدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمِنْبَرَ فَقَالَ: ' آمِينَ آمِينَ آمِينَ '. قَالَ: ' أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَدْرَكَ أَحَدَ وَالِدَيْهِ فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، فَقُلْ: آمِينَ. قُلْتُ: آمِينَ. قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَمَاتَ، فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأُدْخِلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ فَقُلْتُ: آمِينَ. قَالَ: وَمَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ. قُلْ: آمِينَ فَقُلْتُ: آمِينَ». [رواه الطبراني بسند صحيح (2/ 243) رقم 2022].
لقد بيَّن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - اختلاف الناس في الاستعداد لرمضان، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ' لَمَحْلُوفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا أَتَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ شَهْرٌ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ رَمَضَانَ، وَلا أَتَى عَلَى الْمُنَافِقِينَ شَهْرٌ شَرٌّ لَهُمْ مِنْ رَمَضَانَ، وَذَلِكَ لِمَا يُعِدُّ الْمُؤْمِنُونَ فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ لِلْعِبَادَةِ، وَمَا يُعِدُّ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ مِنْ غَفَلاَتِ النَّاسِ وَعَوْرَاتِهِمْ، هُوَ غَنْمٌ لِلْمُؤْمِنُ يَغْتَنِمُهُ الْفَاجِرُ. [رواه أحمد بسند صحيح (14/ 104) رقم 8368].
وقوله رضي الله عنه ' بمحلوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ' يقسم أبو هريرة بما أقسم به النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ما أتى على المسلمين شهر أفضل من رمضان.
وفي أول لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضانَ تصُفِّد الشَّياطينُ ومَرَدَةُ الجِنّ،ِ وَتغلق أبْوابُ النَّارِ وتفتح أبْوابُ الجَنَّةِ، وينادِي مُنادٍ كُلَّ لَيْلَةٍ يا باغِيَ الخَيْرِ أقْبِلْ ويا باغِيَ الشرِّ أقْصِرْ، ولله في هذا الشهر عُتَقاءُ مِنَ النَّارِ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:' إذا كانَ أوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضانَ صُفِّدَتِ الشَّياطينُ ومَرَدَةُ الجِنِّ وَغُلِّقَتْ أبْوابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْها بابٌ وفُتِحَتْ أبْوابُ الجَنَّةِ فلمْ يُغْلَقْ مِنْها بابٌ وفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ وينادِي مُنادٍ كُلَّ لَيْلَةٍ يا باغِيَ الخَيْرِ أقْبِلْ ويا باغِيَ الشرِّ أقْصِرْ ولله عُتَقاءُ مِنَ النَّارِ وذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ '. [رواه الترمذي بسند صحيح (3/57) رقم 682]
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ. [رواه النسائي بسند صحيح (4/ 129) رقم 2106].
تصور أن أحب الناس إليك غاب عنك شهورا طوالا، وجاءك البشير يبشرك بقدومه بعد أيام، كيف تكون فرحتك؟
فترى المؤمنين في فرح وسرور واشتياق إلى رمضان، تحن قلوبهم إليه، يستقبلونه بصيام شيء من شهر شعبان اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ولا بد أن يستعد المسلمون لهذا الشهر، فهو ضيف عزيز، ولا بد للمسلم أن يتفقه في هذه العبادة.
وأول شيء تستقبل به رمضان أن تتأهب لقدومه وتستعد، وأن تكون نفسك مستبشرة بهذا الوافد، فذلك من تعظيم شعائر الله تعالى، قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}. [الحج:32].
يفرح المؤمنون بقدوم شهر رمضان، وذلك بفضل الله تعالى، كما قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}. [يونس:58]، لأن محبة الأعمال الصالحة فرع عن محبة الله سبحانه.
باع قوم من السلف جارية لهم، فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان المطعومات والمشروبات لاستقبال رمضان، فلما رأت الجارية ذلك منهم، قالت: ' لماذا تصنعون ذلك؟ '، قالوا: ' لاستقبال شهر رمضان '، فقالت: ' وأنتم لا تصومون إلا في رمضان؟ والله لقد جئت من عند قوم السَّنَةُ عندهم كأنها كلَّها رمضان، لا حاجة لي فيكم، رُدُّوني إليهم '، ورجعت إلى سيدها الأول.
يستعد المسلم لصيام هذا الشهر المبارك صياما حقيقيا، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. [رواه مسلم (2/807) رقم1151].
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: غَزَا النَّاسُ بَرًّا، وَبَحْرًا، فَكُنْتُ فِيمَنْ غَزَا الْبَحْرَ، فَبَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ فِي الْبَحْرِ سَمِعْنَا صَوْتًا يَقُولُ: يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ قِفُوا أُخْبِرْكُمْ، فَنَظَرْنَا يَمِينًا وَشِمَالًا، فَلَمْ نَرَ شَيْئًا إِلَّا لُجَّةَ الْبَحْرِ، ثُمَّ نَادَى الثَّانِيَةَ حَتَّى نَادَى سَبْعَ مَرَّاتٍ يَقُولُ كَذَلِكَ، قَالَ أَبُو مُوسَى: فَلَمَّا كَانَتِ السَّابِعَةُ قُمْتُ، فَقُلْتُ: مَا تُخْبِرُنَا؟ قَالَ: «أُخْبِرُكُمْ بِقَضَاءٍ قَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ، أَنَّ مَنْ أَعْطَشَ نَفْسَهُ لِلَّهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ يَرْوِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: فَكَانَ أَبُو مُوسَى: «لَا يَمُرُّ عَلَيْهِ يَوْمٌ حَارٌّ إِلَّا صَامَهُ، فَجَعَلَ يَتَلَوَّى فِيهِ مِنَ الْعَطَشِ»[رواه عبد الرزاق في مصنفه(4/ 308) رقم 7897]، ورواه البزار في مسنده (11/ 214) ورجاله موثقون كما قال الهيثمي.
ولا بد أن يستقبل المسلم رمضان بالتوبة الصادقة وكثرة الاستغفار واللجوء إلى الله تعالى، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8].
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهـر الصوم بعدهمـا فلا تصيره أيضاً شهر عصيـان
واتل القرآن وسبح فيـه مجتهـداً فإنـه شهـر تسبيـح وقــرآن
ويستقبل رمضان بتعلم ما لا بد منه من فقه الصيام وأحكامه، وكذا تعلم العبادات التي لها ارتباط برمضان، كالاعتكاف والعمرة والزكاة وغيرها، فكل هذا من طلب العلم وهو واجب، فعن أنس بن مالك قال قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: ' طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ '. [رواه ابن ماجه بسند صحيح (1/81) رقم224]
ولا بد أن يستقبل المسلم رمضان بعقد النية الصادقة على تعميره بالأعمال الصالحة، قال الله تعالى: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21]، وقال أيضا: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً َ}. [التوبة:46]، ولا بد من تحري أفضل الأعمال فيه وأعظمها.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول إذا رأى الهلال -سواء أكان هلال رمضان أم غيره وهو مستقبل القبلة-: الله أكبر، اللهم أَهِلَّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيقِ لما تحب وترضى، ربنا وربكَ الله.
وكان يقول إذا رأى القمر: أعوذ بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب.
ولا بد أن يستقبل رمضان بحسن التوكل على الله، وعزم النية على العمل الصالح.
وهكذا فإن المسلم الحق هو الذي يستعد للعبادة قبل الشروع بها، ويتعلم أحكامها حتى تصح منه. والله أعلم.
الشيخ عبد الباري بن محمد خلة