تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى أما بعد،
فإن لنا ربًّا كبيرًا، كريمًا، يعفو ويغفر، فمن تعرف على الله بآلائه وصفاته، دعاه ذلك لعبادة ربه بكل إخلاص، بل يعبده وهو يستحي منه، ويرى أنه مقصر مهما أحسن؛ لأنه يرى نعم ربه تنزل عليه تترى، ومننه عليه لا تعد ولا تحصى، ودفعه عنه لا ينفك عنه، وأن الهلاك مصيره لولا دفع الله عنه، عند ذلك يعلم أن العبد مقصر في حق ربه مع اجتهاده في العبادة والطاعة، فقل لي بربك كيف يكون الحال مع الذي يبارز ربه بالذنوب ثم يعرض عن الطاعة، ويرى أنه مستغنٍ عن ربه.
بعض الخلق لا يعظم الله حق تعظيمه، فهو لا يعبد الله إلا لحاجة في نفسه فإذا انقضت حاجته أعرض بجانبه، ثم لا تراه يستحي أن يعود مرة أخرى عند الحاجة فيطيع، ويطلب حاجته، ثم يولي دبره مستغنيًا بعد حصول مطلوبه
وعن عبدِ الله بنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: كُنتُ خَلفَ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكُ كَلماتٍ: احفَظِ الله يَحْفَظْكَ، احفَظِ الله تَجِدْهُ تجاهَكَ، إذا سَأَلْت فاسألِ الله، وإذا استَعنْتَ فاستَعِنْ باللهِ، واعلم أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمعت على أنْ ينفعوك بشيءٍ، لم ينفعوك إلاَّ بشيءٍ قد كَتَبَهُ الله لكَ، وإنِ اجتمعوا على أنْ يَضرُّوكَ بشيءٍ، لم يضرُّوك إلاَّ بشيءٍ قد كتبهُ الله عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ».
وفي رواية غير التِّرمذي: «احفظ الله تجده أمامَك، تَعرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاء يَعْرِفْك في الشِّدَّةِ، واعلَمْ أنَّ ما أخطَأَكَ لم يَكُن لِيُصِيبَكَ، وما أصابَكَ لم يَكُن ليُخطِئَكَ، واعلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبرِ، وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وأنَّ معَ العُسْرِ يُسراً».
«تعرَّف إلى الله في الرَّخاء، يعرفكَ في الشِّدَّةِ» يعني: أنَّ العبدَ إذا اتَّقى الله، وحَفِظَ حدودَه، وراعى حقوقه في حال رخائه، فقد تعرَّف بذلك إلى الله، وصار بينه وبينَ ربه معرفةٌ خاصة، فعرفه ربُه في الشدَّة، ورعى له تَعَرُّفَهُ إليه في الرَّخاء، فنجَّاه من الشدائد بهذه المعرفة، وهذه معرفة خاصة تقتضي قربَ العبدِ من ربِّه، ومحبته له، وإجابته لدعائه.
معرفة الله التي يدور حولها العارفون، كما قال بعضهم: مساكينُ أهلُ الدُّنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيبَ ما فيها، قيل له: وما هو؟ قال: معرفةُ الله عز وجل'.
ويروى أن يونس -عليه السلام – لمَّا دعا في بطن الحوت، قالت الملائكة: 'يا ربِّ، هذا صوتٌ معروفٌ من بلادٍ غريبة، فقال الله – عز وجل -: أما تعرفون ذلك؟ قالوا: ومَنْ هوَ؟ قال: عبدي يونس، قالوا: عبدُك يونس الذي لم يزل يُرفَعُ له عمل متقبل ودعوةٌ مستجابة؟ قال: نعم، قالوا: يا ربِّ، أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيَه من البلاء؟ قال: بلى، قال: فأمر الله الحوتَ فطرحه بالعراء'.
وقال الضحاك بن قيس: 'اذكروا الله في الرَّخاء، يذكركُم في الشِّدَّة، وإنَّ يونس – عليه السلام – كان يذكُرُ الله تعالى، فلمَّا وقعَ في بطن الحوت، قال الله – عز وجل: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)
وإنَّ فرعون كان طاغياً ناسياً لذكر الله، فلما أدركه الغرق، قال: آمنت، فقال الله تعالى: (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)
والذي يمنع العبد عن الله ويقربه من الدنيا هي الغفلة قال الله تعالى: ' اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ' [ الأنبياء:1 ]
فهذه غفلة عن الله تعالى الآيات تتلى، وهم معرضون منهمكون في اللهو واللعب قلوبهم غافلة عن الله مقبلة على الدنيا
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لابن عمر -رضي الله عنه-: كُنْ في الدُّنيا كأنَّك غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ' قال: فكان ابنُ عُمَرَ يقولُ: 'إذا أصبَحْتَ فلا تنتظِرِ المساءَ وإذا أمسَيْتَ فلا تنتظِرِ الصَّباحَ وخُذْ مِن صحَّتِكَ لِمرضِكَ ومِن حياتِكَ لِموتِكَ'. رواه البخاري
ومن الناس من يغتر بحلم الله عليه، فيظلم الناس، ويرتكب المعاصي والذنوب والله تعالى يمهله فعن أبي موسى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال 'إنّ الله تعالى لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حتى إذا أخَذَهُ لم يُفْلِتْهُ وقرأ المصطفى قول الله جل وعلا ' وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ' [هود: 102] رواه البخاري.
وللغفلة علامات
منها: التكاسل عن الطاعات واستصغار المحرمات، والمجاهرة بها؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: 'كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ' رواه البخاري.
ومن علامات الغفلة تضييع الأوقات وترك ذكر الله إلا قليلا، والرضا عن النفس، وترك صلاة الجمعة والبعد عن الطاعات واتباع الهوى وترك قراءة القرآن، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمروٍ -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: 'من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمئة آية كتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين'.
علاج الغفلة
ومن علاج الغفلة عدم الركون إلى الدنيا، والمحافظة على الصلوات في المسجد والإكثار من ذكر الله، وقراءة القرآن، والإكثار من ذكر الموت، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: 'أَكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت'.
وزيارة القبور، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: 'زوروا القبور؛ فإنها تذكركم بالآخرة' رواه ابن ماجة بسند صحيح.
وزيارة المرضى واجتناب رفقاء السوء، واللجوء إليه بالدعاء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الشيخ عبد الباري بن محمد خلة