الشيخ عبد الباري بن محمد خلة | مقالات | ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ

اليوم : الجمعة 19 رمضان 1445 هـ – 29 مارس 2024م
ابحث في الموقع

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:

فالمعصية والعِصيان مخالفة الأمر، وهي خلاف الطاعة، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]

والمعصية شر على صاحبها، تهلك النفس، وتَقسو القلب، وهي موضع سخط الله على مرتكبها.

وإن لذنوب الإنسان وخطاياه شؤمًا، يظهر عليه في بدنه، وعافيته، ووجهه، ورزقه، يقول عبد الله بن عباس -رضيَ اللهُ عنهما-: {إِنّ َلِلسَّيِّئَةِ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ، وَظُلْمَةً فِي الْقَبْرِ وَالْقَلْبِ، وَوَهْنًا فِي الْبَدَنِ، وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ، وَبُغْضَةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ} [الوابل الصيب (ص: 48)].

بل إن شؤم المعصية يتعدى صاحبها إلى من حوله من بني الإنسان، يقول إسماعيل البروسوي -رحمه الله- في تفسيره: {المعصية كالليلة المظلمة، فكما أن الليلة تحيط ظلمتها بالجوانب، فكذا المعصية تتفرق شامتها إلى الأقارب والأجانب، فهي من تأثيرات قهره تعالى} [روح البيان (7/ 44)].

بل إن الله سبحانه وتعالى أخبرنا، أن شؤم المعصية، وفساد ابن آدم، يؤثر في الجماد والحيوان، حتى يفسد الهواء والماء، والزرع والثمر، ويزيل النعم، ويجلب النقم والأمراض والأوبئة، ويمحق البركة من الأرض والسماء.

قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].

وذلك يكون بالجدب، وقلة النبات، وعدم الربح في التجارات، وانعدام النسل في الحيوانات وموتها، ومحق البركة من كل شيء، وظهور والأوبئة والطواعين، وكثرة الحرائق، ووفرة الفتن والحروب، وغيرها من المضار؛ وذلك كله «بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ» أي بسبب شؤم المعاصي. [روح البيان (7/ 44)].

فذنوب ابن آدم سبب في خراب البلاد والعباد، حتى إنها لتؤذي البهائم والطير، قال مجاهد -رحمه الله-: {إِنَّ الْبَهَائِمَ تَلْعَنُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ إِذَا اشْتَدَّتِ السَّنَةُ، وَأُمْسِكَ الْمَطَرُ، وَتَقُولُ: هَذَا بِشُؤْمِ مَعْصِيَةِ ابْنِ آدَمَ} [الجواب الكافي (ص: 38)].

 ويقول أبو هريرة -رضيَ اللهُ عنه-: {إِنَّ الْحُبَارَى (نوع من الطيور) لَتَمُوتُ فِي وَكْرِهَا مِنْ ظُلْمِ الظَّالِمِ} [الكبائر (ص: 36)].

إن ما تعيشه البشرية اليوم من كرب وأوبئة ومصائب، من أسبابه ظلم بني الإنسان، قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].

 فما نزل من السماء بلاء، ولا كرب إلا بذنب، وسنة الله ماضية في خلقه، أنه كلما أحدث الناس ذنبًا، أحدث لهم سبحانه عقوبة لم يعلموها، يقول ابن القيم -رحمه الله-: {قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُلَّمَا أَحْدَثْتُمْ ذَنْبًا أَحْدَثَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ سُلْطَانِهِ عُقُوبَةً} [الجواب الكافي (ص: 38)].

ولقد ذكر لنا رسولنا -صلى اللهُ عليه وسلَّم- ذنوبًا، إذا فعلها العباد، حلت بهم عقوبة الله عامَّة لهم، فعن عبد الله بن عمر -رضيَ اللهُ عنهما- أن رسول الله -صلى اللهُ عليه وسلَّم- قال: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خِصَالٌ خَمْسٌ إِنِ ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَنَزَلْنَ بِكُمْ، أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ  تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بها، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ وَيَأْخُذُ بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بَيْنَهُمْ بِكِتَابِ اللهِ إِلَّا جَعَلَ بِأَسَهُمْ بَيْنَهُمْ» [رواه ابن ماجه بسند حسن].

وما هذه الأمراض الغريبة التي ظهرت اليوم، وتفشت بين الناس، إلا بظلم العباد وفواحش ابن آدم.

 وما هذه الزلازل، والحرائق، والفيضانات، والأعاصير التي تفتك في البشر بين الفينة والأخرى إلا بما كسبت أيدي الناس، فإن الله سبحانه خلق الأرض صالحة للإنسان، وجعل له فيها معايش، ويسّر له سبلها ومناكبها، وذلّل له كل مخلوقاته، وسخر له ما في الأرض جميعًا، فأفسد هذا كلّه ظلمُ الإنسان.

إن الحل الأمثل لما تعانيه البشرية اليوم من مرض ووباء ومجاعة وفقر، يكون بالعودة إلى دين الله تعالى، فهو فطرة الله التي فطر الناس عليها.

وعلينا أن نرجع إلى الله تعالى، وأن نستقيم على منهجه، وأن نلزم تقوى الله تعالى، فهي طوق النجاة في زمن كَثُرت فيه الفتن والمحن، وهي أيسر السبل وأسرعها لكشف ما نحن فيه من البلاء والوباء، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96].

وهكذا فإن الله تعالى خلق الخلق من أجل عبادته، وجعل الإنسان خليفة في الأرض ليقيم العدل عليها، ومن هذا صفته لا ينبغي عليه أن يعصي ربه، وإن حصلت غفلة وعصاه سارع إلى الرجوع إليه والتوبة له، وهذا صفة المؤمن الذي يفر إلى الله دائمًا.

 وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد.

                      الشيخ عبد الباري بن محمد خلة

الأكثر مشاهدة


لقمة الزقوم والقلاش ذوق الطعام من البضاعة قبل الشراء

الورع

الغفلة

الاشتراك في القائمة البريدية