الحمد
لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فالإسلام دين وسطي، يدعو أتباعه إلى الخير، ويربيهم على التفاؤل، ويبعث في نفوسهم الأمل وحسن الظن بالله، وينهاهم عن التشاؤم والتطير، وعن الخرافات والأوهام، ويدعوهم إلى الأخذ بالأسباب وعدم الاعتماد عليها؛ ليصل بهم إلى سعادة الدنيا والآخرة.
وبعض الناس يتشاءمون من بعض الأيام، والشهور، والأعداد، الأمراض، والأشخاص.
والتشاؤم هو حالة نفسية تبعث في النفس اليأس، وتوقع حصول الشر من شيء تراه أو تسمعه.
وجاء القرآن الكريم والسنة النبوية بالنهي عن التشاؤم والتطير، وكان النبي -صلى اللهُ عليه وسلَّم- يحب التفاؤل، وكان يعجبه عليه الصلاة والسلام الفأل الحسن(الكلمة الطيبة).
ومما يُؤسفُ له في أيامنا هذه، حالة التشاؤم التي أصيب بها بعض المسلمين، جراء ظهور وباء كورونا، فترى بعضهم يظهر حالة من التسخط، وعدم الرضا، والكراهية لهذا الفيروس المستجد، بل إن بعضهم قد يتشاءم من المناطق والأحياء التي ظهر فيها هذا الوباء، وبعضهم قد يتشاءم من الأشخاص الذين أُصيبوا بهذا المرض، أو كانوا سبباً في دخول المرض إلى بلدنا (حسب اعتقادهم)، وبعضهم صرح بهذا على مواقع التواصل الاجتماعي.
وهذا -والعياذ بالله- يدل على فساد في العقيدة، وخلل في الفهم، وسوء ظن بالله، ومن فعل ذلك فقد اتصف بصفات أهل الجاهلية، ووقع في وحل الشرك الأصغر، وهذا أيضاً يقضي على معاني المحبة والإخاء بين أبناء المجتمع الواحد، ويزرع الضغينة والبغضاء بينهم، وهذا لا شك من الكبائر.
الأدلة الشرعية على تحريم التشاؤم والتطير من المرض أو المريض
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فأدلة كثيرة تدل على تحريم ذلك، منها:
1- التشاؤم هو من عادات الجاهلية، والأمم الوثنية السابقة، وكانوا يتشاءمون كثيرا، حتى تشاءموا بأنبيائهم ورسلهم، قال الله تعالى على لسان قوم صالح عليه السلام (ثمود): {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} [النمل: 47]، قَالَ مُجاهد: {تَشَاءَمُوا بِهِمْ} [تفسير ابن كثير (6/ 178)].
وقال الله تعالى عن قوم فرعون: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131].
قال ابن جرير الطبري -رحمه الله-: {يتشاءموا ويقولوا: ذهبت حظوظنا، وأنصباؤنا من الرخاء والخصب والعافية، مذ جاءنا موسى عليه السلام} [تفسير الطبري (13/ 47)].
2- التشاؤم سوء ظن بالله، وإساءة الظن بالله مذموم، وهو من صفات المنافقين والمشركين، الذين توعدهم الله بالعذاب الشديد، قال الله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6].
وجرت سنة الله في خلقه أن من ساء ظنه بالله، وتشاءم من شيء= وقع به، قال ابن القيم -رحمه الله-: {واعلم أن التطير إنما يضر من أشفق منه وخاف، وأما من لم يبال به، ولم يعبأ به شيئًا، لم يضره البتة} [مفتاح دار السعادة (2/ 552)].
وقال ابن عاشور -رحمه الله-: {الشؤم يقع على من يتشاءم، جعل الله ذلك عقوبة له في الدنيا لسوء ظنه بالله} [التحرير والتنوير (9/ 66)].
ويؤيد هذا ما رواه ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ، فَقَالَ لَهُ: «لاَ بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» قَالَ: قُلْتُ: طَهُورٌ؟ كَلَّا، بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ، أَوْ تَثُورُ، عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، تُزِيرُهُ القُبُورَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «فَنَعَمْ إِذًا» [رواه البخاري]. تُزِيرُهُ القُبُورَ أَيْ: تَحْمِلُهُ الْحُمَّى عَلَى زِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَتَجْعَلُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: علي الملا (3/ 1124)
وفي زيادة عند الطبراني بسند صحيح: «أمَا إِذَا أَبَيْتَ فَهيَ كَمَا تَقُولُ، وَمَا قَضَى اللهُ فَهُوَ كَاْئِنٌ، قَالَ: فَمَا أَمْسَى مِنَ الْغَدِ إِلَّا مَيِّتًا». المعجم الكبير للطبراني (7/ 306)
3- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الفَأْلُ» قَالَ: وَمَا الفَأْلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ» [رواه البخاري ومسلم].
قال النووي -رحمه الله-: { وَالتَّطَيُّرُ: التشاؤم، وَأَصْلُهُ الشَّيْءُ الْمَكْرُوهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ مَرْئِيٍّ، وَكَانُوا يَتَطَيَّرُونَ بِالسَّوَانِحِ وَالْبَوَارِحِ، فَيُنَفِّرُونَ الظِّبَاءَ وَالطُّيُورَ، فَإِنْ أَخَذَتْ ذَاتَ الْيَمِينِ تَبَرَّكُوا بِهِ، وَمَضَوْا فِي سَفَرِهِمْ وَحَوَائِجِهِمْ، وَإِنْ أَخَذَتْ ذَاتَ الشِّمَالِ رَجَعُوا عَنْ سَفَرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ، وَتَشَاءَمُوا بِهَا، فَكَانَتْ تَصُدُّهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ عَنْ مَصَالِحِهِمْ، فَنَفَى الشَّرْعُ ذَلِكَ، وَأَبْطَلَهُ وَنَهَى عَنْهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ بنفع و لا ضر، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لاَ طِيَرَةَ} [شرح النووي على مسلم (14/ 218)].
4- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضيَ اللهُ عنه-، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، ثَلَاثًا» [رواه ابن ماجه بسند صحيح].
قال السندي -رحمه الله-: {قَوْلُهُ: (شِرْكٌ): إِذَا اعْتَقَدَ لَهَا تَأْثِيرًا، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّهَا مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ، أَوْ مُفْضِيَةٌ إِلَيْهِ بِاعْتِقَادِهَا مُؤَثِّرَةً، أَوِ الْمُرَادُ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ} [حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 363)].
5- التشاؤم من الشخص المريض، يتنافى مع أخلاق الإسلام السامية، فقد علمنا ديننا احترام الناس، وحثنا على التكافل في مواجهة الشدائد والجوائح، وأمرنا بعيادة المريض، والدعاء له، وتذكيره بما له عند الله من الأجر والثواب؛ حتى يكون ذلك عونًا على مرضه، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: «مَنْ عَادَ مَرِيضًا، لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ فَقَالَ عِنْدَهُ سَبْعَ مِرَارٍ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ، إِلَّا عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ»[ رواه أبو داود بسند صحيح].
وعَنْه- رضي الله عنه- قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ: لَا بَأسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللهُ» [رواه البخاري].
قال المهلب -رحمه الله-: {فيه أن السنة أن يخاطب العليل بما يسليه من ألمه، ويغبطه بأسقامه، بتذكيره بالكفارة لذنوبه وتطهيره من آثامه، ويطعمه بالإقالة لقوله: لا بأس عليك مما تجده، بل يكفر الله به ذنوبك، ثم يفرج عنك، فيجمع لك الأجر والعافية؛ لئلا يسخط أقدار الله، واختياره له، وتفقده إياه بأسباب الرحمة، ولا يتركه إلى نزعات الشيطان والسخط، فربما جازاه الله بالتسخط، وبسوء الظن عقابًا، فيوافق قدرًا يكون سببًا إلى أن يحل به ما لفظ به من الموت الذي حكم على نفسه} [شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/ 382)].
علاج التشاؤم والتطير من المرض أو المريض
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فعلاج التشاؤم واجب، ولا بد منه، ويكون بأمور، منها:
1- التوكل على الله، واليقين بأنه لا يصيب العبد إلا ما قدَّره الله له، والاعتقاد الجازم بأن الوباء لا يضر إلا بمشيئة الله، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأقدار الله جارية على العبد شاء أم أبى، فلا رادَّ لقضاء الله، فالله وحده النافع والضار، قال الله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107].
2- الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، فالتشاؤم من نزغ الشيطان الذي يلقيه في قلب ابن آدم، ويوسوس به في نفسه؛ ليحزنه ويوقعه في براثن الشرك، ووحل الضلالة، قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200].
3- العلم النافع: فإن الجهل من أعظم أسباب التشاؤم والانحراف العقائدي، وبالعلم يعرف الإنسان ربه، ويصحح عقيدته، ويستقيم على منهج الله، ويخرج من ظلمات الجهل والخرافات والضلالات إلى أنوار المعرفة؛ لذلك قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
4- الدعاء: فالدعاء من أعظم القربات، وأفضل العلاج لكل المعضلات والأزمات التي تقع بالمؤمن، فإذا شعر المسلم بشيء من التشاؤم في نفسه، فليتضرع إلى الله تعالى أن يذهب عنه ما يجد، وقد أرشدنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا العلاج النافع لطرد التشاؤم، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ فَقَدْ أَشْرَكَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ، قَالَ: أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ» [رواه أحمد بسند صحيح].
5- عدم الالتفات إلى الشعور بالتشاؤم الذي يعرض للنفس، فالنفس البشرية عرضة لمثل هذا الشعور، لكن المؤمن لا يلتفت إليه، ويطرده بالتوكل على الله، وقد أرشدنا نبينا -صلى اللهُ عليه وسلَّم- إلى هذا، فعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، وَقَدْ جَاءَ اللهُ بِالْإِسْلَامِ، وَإِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ، قَالَ: «فَلَا تَأْتِهِمْ» قَالَ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ، قَالَ: ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ، فَلَا يَصُدَّنَّهُمْ» [رواه مسلم].
قال النووي -رحمه الله-: {قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الطِّيَرَةَ شَيْءٌ تَجِدُونَهُ فِي نفوسكم ضرورة، وَلَا عَتَبَ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُكْتَسَبٍ لَكُمْ، فَلَا تَكْلِيفَ بِهِ، وَلَكِنْ لَا تَمْتَنِعُوا بِسَبَبِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي أُمُورِكُمْ، .... وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّطَيُّرِ وَالطِّيَرَةُ هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا لَا عَلَى مَا يُوجَدُ فِي النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ عَلَى مُقْتَضَاهُ عِنْدَهُمْ} [شرح النووي على مسلم (5/ 23)].
6- من العلاج النافع في دفع التشاؤم من الأمراض والأوبئة مثل كورونا، أن يتفكر العبد في الجزاء العظيم، والثواب الكبير الذي أعده الله سبحانه وتعالى، لأهل البلاء، ويتفكر في حكمة الله عز وجل من هذه الأوبئة والطواعين، وليصبر، وليحتسب ما أصابه بسبب هذا الوباء عند الله تبارك وتعالى، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد.