الشيخ عبد الباري بن محمد خلة | مقالات | التنافس البناء

اليوم : الأربعاء 29 شوَّال 1445 هـ – 08 مايو 2024م
ابحث في الموقع

التنافس البناء

التنافس البناء
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

فيقول الله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]
الدنيا أيها الأخوة هي دار العمل والجد في طاعة الله قال الله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }الزلزلة 7،8 فمنا الرابح ومنا الخاسر والمسلم ينبغي عليه أن يغتنم فرصة الصحة والقوة والشباب هذه أمانه في أعناقنا, أسواق الجنة تفتح أبوابها لمنافسة العباد في المتاجرة مع الله تعالى، كما قال بعض السلف: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة. قال الله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] فأصحاب الدنيا يتنافسون من أجل المال والمتاع الزهيد، يريد الكل منهم أن يسبق إليه ومن ثم يظلم ويفجر من أجل متاع زائل وفان.
وأما أصحاب الآخرة الذين يريدون الجنة ويبحثون عن الحقيقية فهم الذين يجعلون حياتهم وقفا على معرفة الله ومرضاته، فتنافسهم في الدنيا من أجل تحصيل النعيم المقيم في الدار الآخرة وهذه الهمة هي همة الصادقين.

والتنافس في أمر الآخرة يصل إلى القمة حتى إن قتل أحدهم في سبيل الله يقول: (فزت ورب الكعبة). إنه الفوز بالشهادة لدخول دار المقامة وبعضهم يشم رائحة الجنة ويأتيه من روحها وريحانها فعن أَنَسٍ أَنَّ أنَس بْنَ النَّضْرِ تَغَيَّبَ عن قِتَالِ بَدْرٍ فَقَالَ تَغَيَّبْتُ عن أَوَّلِ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَئِنْ رَأَيْتُ قِتَالًا لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ أنَس فَرَأَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ مُنْهَزِمًا فَقَالَ يَا أَبَا عَمْروٍ أَيْنَ أَيْنَ قُمْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ فَحَمَلَ حَتَّى قُتِلَ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا اسْتَطَعْتُ مَا اسْتَطَاعَ فَقَالَتْ أُخْتُهُ فَمَا عَرَفْتُ أَخِي إِلَّا بِبَنَانِهِ وَلَقَدْ كَانَتْ فِيهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ ضَرْبَةً مِنْ بَيْنِ ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ وَطَعْنَةٍ بِرُمْحٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ إِلَى قَوْلِهِ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا، رواه أحمد بسند صحيح.

 والتنافس في نعيم الآخرة يجعل الدنيا مزرعة للآخرة لأن غاية الإنسان هي عبادة الرحمن كما قال الله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وقد كان أبو مسلم الخولاني عندما يقوم الليل فإذا تعبت قدماه ضربها بيديه قائلا: أيحسب أصحاب محمد أن يسبقونا برسول الله والله لنزاحمهم عليه في الحوض، فأبو مسلم يريد أن يزاحم صحابة رسول الله في أي شيء في الدار الآخرة، هذه هي المنافسة الشريفة.
أيها الأخوة: إن عمر المرء محدود في الدنيا وعمره في الآخرة ممدود ليس له نهايةٌ ولا حدود، ومتاع الدنيا محدود، ومتاع الجنة ممدود، فحي على جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر وقد حثثنا النبي عليه الصلاة والسلام على العمل الصالح،

فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ:  «أَلَا هَلْ مُشَمِّرٍ لِلْجَنَّةِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا خَطَرَ لَهَا هِيَ، وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مُشَيَّدٌ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِي مَقَامٍ أَبَدًا فِي حَبْرَةٍ وَنَضْرَةٍ فِي دَارٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيَّةٍ»، قَالُوا: نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لها يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «قُولُوا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، ثُمَّ ذَكَرَ الْجِهَادَ وَحَضَّ عَلَيْهِ. رواه ابن ماجه بسند ضعيف.

 وعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ -رِضَى اَللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: { قَالَ لِي اَلنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَلْ. فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي اَلْجَنَّةِ. فَقَالَ: أَوَغَيْرَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ , قَالَ: ' فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ اَلسُّجُودِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

 لأن مقامات الناس في الجنة ودرجاتهم  بحسب أعمالهم. كما قال الله تعالى {تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43].أيها الأخوة: إن العمل الصالح لطلب الجنة محبوب وقد وصف الله الجنة لعباده وزينها لهم, كل هذا تشويق إليها وسعي حثيث من أجلها
ويمر الزمن دون فائدة مع أن الزمن له قيمة في حياة المسلم بل في حياة الإنسان، وقديما قالوا: ' الوقت من ذهب ' والحق أن الوقت أغلى من الذهب الوقت هو الحياة والحياة لا تقدر بثمن وقال شوقي
دقات قلب المرء قائلة له                  إن الحياة دقائق وثواني
وعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لِرَجُلٍ: اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَفَرَاغَك قَبْلَ شَغْلِكَ، وَغِنَاك قَبْلَ فَقْرِكَ، وَشَبَابَك قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِك. رواه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وَأَخْرَجَهُ اِبْن الْمُبَارَك فِي الزُّهْد بِسَنَدٍ صَحِيح مِن مُرْسَل عَمْرو بْن مَيْمُون.

 وأما سبيل التنافس: أن نعظم أمر الآخرة: ونقتدي بالأنبياء, قال الله تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46]
والمعنى: إنا خصصناهم بخصيصة عظيمة وجعلنا ذكر الآخرة في قلوبهم والعمل لها والإخلاص لله، فالمؤمن ثمرة وقته يكون بخدمة ربه سبحانه

والعناية بالآخرة مطلوب فكل طاعة هي إعمار للآخرة فلا تنشغل أيها المسلم بتنافس أهل الدنيا. يقول أحد السلف: (إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة). وناج ربك وقل:
ويا ليت الذي بيني وبينك عامر       وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين         وكل الذي فوق التراب تراب
وقال الله تعالى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]
أيها الإخوة: ومن العوائق التي تقف طريق المنافسة من أجل الآخرة:
1- الغفلة عن الله تعالى فهي، داء عضال وهو من أهم أسباب فساد الخلق فمن نسى ربه واتجه إلى ذاته، وإلى ماله، و متاعه وشهواته، امتلأ قلبه محبة للدنيا وزهدا عن الآخرة - والقلب الذي يشتغل بهذه يغفل عن ذكر الله - يقول ابن القيم رحمه الله: (خراب القلب من الأمن والغفلة وعمارته بالخشية والذكر).

2- إتباع الهوى وهو سبب آخر في فساد الخلق وهو يصد عن الحق ويبتعد عنه قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]
قال الحسن: هو الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه. ولا رادع له، ولا حياء من الناس ولا من رب الناس. من اجل الدنيا الفانية ومن ثم يقسو القلب وتسقط همته.
3- الترف الزائد في هذه الدنيا.
قال ابن القيم رحمه الله: (قال لي شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العلية وإن لم يكن تركه شرطا في النجاة فالعارف يترك كثيرا من المباح برزخا بين الحلال والحرام).
4- التسويف: وهو داء فتاك فإن (سوْف) جند من جنود إبليس وقد قيل: إن عامة دعاء أهل النار: يا أف للتسويف.
وكم من الن اس من يسوف حتى ينقضي أجله ولم يدرك شيئا من أمانيه فيخسر الدنيا والآخرة.
والانغماس في الدنيا والركون إليها، سبب في البعد عن الله وسبب في عقم القلب وخرابه وقسوته وسبب في التنافس من أجل الفانية.

فيا أيها المسلمون إن الدنيا إذا حلت أوحلت وإذا طلبت أعمت وإذا ذكرت أنست فها هي الدنيا وها هي الآخرة ضرتان لا تجتمعان فإن أرضيت واحدة أسخطت الأخرى لكن اللبيب هو الذي يرضي الباقية على الفانية يرضي الآخرة على الدنيا فليكن المسلم من أهل الآخرة ولا يأخذ من الدنيا إلا ما يوصله إلى الدار الآخرة وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} [الضحى: 4، 5] هذا وبالله التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

       الشيخ عبد الباري بن محمد خلة

الأكثر مشاهدة


لقمة الزقوم والقلاش ذوق الطعام من البضاعة قبل الشراء

الورع

الغفلة

الاشتراك في القائمة البريدية