الشيخ عبد الباري بن محمد خلة | مقالات | رؤية الله في الدنيا والآخرة

اليوم : الجمعة 19 رمضان 1445 هـ – 29 مارس 2024م
ابحث في الموقع

رؤية الله في الدنيا والآخرة


الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

أولا: رؤية الله -تعالى- في الدنيا يقظةً:

رؤية الله في الدنيا (يقظة) غير واقعة شرعاً، وقد اتفقت الأمة على أن الله تعالى لا يراه أحد في الدنيا بعينه، ولم يخالف في ذلك إلا ما شذ من بعض غلاة الصوفية أو المشبهة، فقد زعموا أنه يجوز رؤية الله في دار الدنيا، لا عبرة بخلافهم ومن ادعى رؤية الله في الدنيا فهو ضالٌ.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: 'من قال من الناس: إن الأولياء أو غيرهم يرى الله بعينه في الدنيا فهو مبتدع ضال، مخالف للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، لا سيما إذا ادعوا أنهم أفضل من موسى، فإن هؤلاء يستتابون، فإن تابوا وإلا قتلوا'.

وقال -رحمه الله- 'وإنما لم نره في الدنيا لعجز أبصارنا، لا لامتناع الرؤيا، فهذه الشمس إذا حدق الرائي البصر في شعاعها ضعف عن رؤيتها لا لامتناع في ذات المرئي، بل لعجز الرائي، فإذا كان في الدار الآخرة أكمل الله قوى الآدميين حتى أطاقهم رؤيته، ولهذا لما تجلى الله للجبل خر موسى صعقاً، قال: سبحانك تبت إليك، وأنا أول المؤمنين بأنه لا يراك حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده، ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملَك في صورته إلا من أيده الله كما أيد نبينا - صلى الله عليه وسلم -'.

 واستدل هؤلاء العلماء على عدم رؤية الله في الدنيا يقظة بأدلة كثيرة، منها:

1.     عن عُمَر بْن ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ عن بَعْض أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:' تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَمُوتَ. رواه مسلم

وجه الدلالة: أن رؤية الله في الدنيا لا تكون.

2.     لأن الله -سبحانه- منع موسى -عليه السلام- من أن يراه، فكيف بمن دونه قال الله على لسان موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قال لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] فمنعه من أن يراه، {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} أي لما تجلى الله للجبل تدكدك ولم يثبت، فكيف يثبت الإنسان الضعيف؟

3.      عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ قَالَ نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ رواه مسلم

4.     عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي ذَرٍّ لَوْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَسَأَلْتُهُ فَقَالَ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ كُنْتَ تَسْأَلُهُ قَالَ كُنْتُ أَسْأَلُهُ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ قَالَ أَبُو ذَرٍّ قَدْ سَأَلْتُ فَقَالَ رَأَيْتُ نُورًا. رواه مسلم

5.     عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ النَّارُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ رواه مسلم  وسبحاته: بهاؤه وعظمته.

6.      رؤية الله من نعيم أهل الجنة فلا تكون لأهل الدنيا.

ثانيا: رؤية الله في الدنيا من حيث الإمكان وعدمه:

رؤية الله في الدنيا جائزة عقلاً لكنها غير واقعة شرعاً، فهي غير مستحيلة، فلا يحيلها العقل لأن موسى سأل ربه: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [(143) سورة الأعراف] وموسى لا يسأل شيئاً مستحيلاً، ولكنها غير كائنة في الدنيا،

ولأن الله لم يقل: لا تمكن رؤيتي، بل قال: {لَنْ تَرَانِي} لن تراني في الدنيا ببشريتك الضعيفة.

وهناك فرق بين القول بإمكانية وقوعها وبين حصول الوقوع.

ثالثا: رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج:

هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعيني رأسه؟

اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -رأى ربه بعيني رأسه، لما جاء عن ابن عباس وبعض الصحابة فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى رواه أحمد وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط : صحيح موقوفا , وهذا إسناد رجاله رجال الصحيح

القول الثاني: أنه رآه بعين قلبه أي: بالروح واستدلوا بأدلة منها:

1.      عن عَائِشَةَ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ يَا أُمَّتَاهْ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ فَقَالَتْ لَقَدْ قَفَّ شَعَرِي مِمَّا قُلْتَ، أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلاَثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرأَتْ (لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ)؛ وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا)؛ وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ (يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) الآية؛ وَلكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ رواه البخاري

2.     عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ قَالَ نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ رواه مسلم

3.     عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي ذَرٍّ لَوْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَسَأَلْتُهُ فَقَالَ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ كُنْتَ تَسْأَلُهُ قَالَ كُنْتُ أَسْأَلُهُ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ قَالَ أَبُو ذَرٍّ قَدْ سَأَلْتُ فَقَالَ رَأَيْتُ نُورًا. رواه مسلم

4.     وأما ما روي: (نور إني أراه) و ((نوراني أراه)) فلم يثبت.

القول الثالث: التوقف، فليس عليه قاطع نفيًا ولا إثباتًا، ولكنه جائز عقلاً.

رابعا: رؤية الله -تعالى- في المنام:

اختلف أهل العلم في رؤية الله تعالى في النوم، فذهب الجمهور إلى جوازها واستدلوا بحديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَانِي اللَّيْلَةَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ قَالَ أَحْسَبُهُ قَالَ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى قَالَ قُلْتُ لَا قَالَ فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَّ أَوْ قَالَ فِي نَحْرِي فَعَلِمْتُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ قَالَ يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فِي الْكَفَّارَاتِ وَالْكَفَّارَاتُ الْمُكْثُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ وَالْمَشْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي الْمَكَارِهِ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ وَكَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِذَا صَلَّيْتَ فَقُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ قَالَ وَالدَّرَجَاتُ إِفْشَاءُ السَّلَامِ وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ رواه الترمذي بسند صحيح

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: 'ومن رأى الله -عز وجل- في المنام فانه يراه في صورة من الصور بحسب حال الرائي أن كان صالحاً رآه في صورة حسنة، ولهذا رآه النبي - صلى الله عليه وسلم -في أحسن صورة...'.

وقال في موضع آخر: 'وقد يرى المؤمن ربه في المنام في صورة متنوعة على قدر إيمانه ويقينه، فإذا كان إيمانه صحيحاً لم يره إلا في صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه نقص رأى ما يشبه إيمانه، ورؤيا المنام لها حكم غير رؤيا الحقيقة في اليقظة، ولها تعبير وتأويل لما فيها من الأمثال المضروبة للحقائق...'.

وأما الرؤيا في النوم التي يدعيها الكثير من الناس فهي تختلف بحسب الرائي -كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله- بحسب صلاحهم وتقواهم؛ وقد يخيل لبعض الناس أنه رأى ربه وليس كذلك، فإن الشيطان قد يخيل لهم ويوهمهم أنه ربهم، كما روي أنه تخيل لعبد القادر الجيلاني على عرش فوق الماء، وقال: أنا ربك، وقد وضعت عنك التكاليف، فقال الشيخ عبد القادر: اخسأ يا عدو الله لست بربي؛ لأن أوامر ربي لا تسقط عن المكلفين،... لكن قد تحصل الرؤية في المنام للأنبياء وبعض الصالحين على وجه لا يشبه فيها سبحانه الخلق، وإذا أمره بشيء يخالف الشرع فهذا علامة أنه لم ير ربه، وإنما رأى شيطاناً، فلو رآه وقال له: لا تصل قد أسقطت عنك التكاليف، أو قال: ما عليك زكاة، أو ما عليك صوم رمضان، أو ما عليك بر والديك، أو قال: لا حرج عليك في أن تأكل الربا... فهذه كلها وأشباهها علامات على أنه رأى شيطاناً وليس ربه.

خامسا: رؤية الله في الآخرة فهي جائزة عقلاً وواقعة شرعاً، لقول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } [القيامة: 22 - 24]

وأما قول الله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [(103) سورة الأنعام] فليس المراد بها نفي الرؤية، وإنما هو نفي الإدراك؛ لأنها سيقت للمدح والمعنى أنه يُرى ولا يحاط به رؤيةً لكمال عظمته.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

                                    الشيخ عبد الباري بن محمد خلة

الأكثر مشاهدة


لقمة الزقوم والقلاش ذوق الطعام من البضاعة قبل الشراء

الورع

الغفلة

الاشتراك في القائمة البريدية