الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين
اصطفى وبعد:
فخلق الله الإنسان وكلفه بالأوامر والنواهي وأحسن إليه في دينه ودنياه ورغبه بجنته ونعيمه ورهبه من ناره وعذابه إذا عصاه وجعله خليفته في أرضه واصطفاه وقربه إليه وأدناه فعصا الإنسان ربه فما أشقاه وقتل نفسه فأبعده الله وجفاه إلا أن يكون غافلا لا عقل له فتجاوز عنه وعافاه.
والانْتِحَارٌ قَتْل الإِنسانِ نفسه ويَتَحَقَّقُ بِوَسيلتين:
1. الإيجاب: كأن يأتي الإنسان بفعلٍ منهيٍّ عَنْهُ، كَاستعْمَال البندقِيةِ أَوْ السمِّ أو الشنق.
2. السلب: بِالاِمْتِنَاعِ عَنِ الْوَاجِبِ، كَالاِمْتِنَاعِ مِنَ الأكْل وَالشُّرْبِ وَتَرْكِ عِلاَجِ الْجُرْحِ الْمَوْثُوقِ بِبُرْئِهِ.
حُكْمُ الانتحار:
الاِنْتِحَارُ حَرَامٌ بِالإجماع، وهو مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) } [الأنعام: 151] }
وقَال اللَّهُ تَعَالَى: { {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) } [النساء: 29، 30] }
والْمُنْتَحِرَ أَعْظَمُ جرما مِنْ قَاتِل غَيْرِهِ، وَهُوَ فَاسِقٌ بَاغٍ عَلَى نَفْسِهِ.
وظَاهِر بَعْضِ النصوص يَدُل عَلَى خُلُودِهِ فِي النَّارِ.
قال اللَّهُ تَعَالَى: { مِنْ أَجْل ذَلكَ كَتَبْنَا عَلى بَنِي إِسْرائيل أَنَّهُ مَنْ قَتَل نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَل النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } [المائدة:32]
وقَال اللَّهُ تَعَالَى: { وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَليْهِ وَلعَنَهُ وَأَعَدَّ لهُ عَذَاباً عَظِيماً } [النساء:93]
ومن أعظم الجرم أن يقتل المسلم نفسه يئسا من الحياة، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مجرد تمني الموت، فعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ المَوْتَ لضُرٍّ نَزَل بِهِ، فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مُتَمَنِّيًا للمَوْتِ فَليَقُل: اللهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْرًا لي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لي ) رواه البخاري .
وعن قيس - رضي الله عنه - أنه قال: ( أَتَيْتُ خَبَّابًا - رضي الله عنه - وَقَدِ اكْتَوَى سَبْعًا فِي بَطْنِهِ فَسَمِعْتُهُ يَقُول: لوْلاَ أَنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالمَوْتِ لدَعَوْتُ بِهِ ) رواه البخاري .
وقد حذرنا الإسلام من الانتحار فعن أَبِي هريرة - رضي الله عنه - أنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَل فَقَتَل نَفْسَهُ، فَهْوَ في نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالدًا مُخَلدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّي سَمًّا فَقَتَل نَفْسَهُ فَسَمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالدًا مُخَلدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَل نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالدًا مُخَلدًا فِيهَا أَبَدًا ) رواه البخاري .
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلاً قَاتَل فِي سَبِيل اللَّهِ أَشَدَّ الْقِتَال، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ مِنْ أَهْل النَّارِ، فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ وَجَدَ الرَّجُل أَلَمَ الْجُرْحِ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى كِنَانَتِهِ، فَانْتَزَعَ مِنْهَا سَهْمًا فَانْتَحَرَ بِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ: انْتَحَرَ فُلاَنٌ فَقَتَل نَفْسَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنْ خَنَقَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا فَقَتَلَهَا خَنَقَ نَفْسَهُ فِي النَّارِ، وَمَنْ طَعَنَ نَفْسَهُ طَعَنَهَا فِي النَّارِ، وَمَنِ اقْتَحَمَ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ اقْتَحَمَ فِي النَّارِ. رواه ابن حبان بسند صحيح
وعن جُنْدُبَ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ فيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ، فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِها يَدَهُ فَما رَقَأَ الدَّمُ حَتّى مَاتَ، قَالَ اللهُ تَعالَى بادَرَنِي عَبْدي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ أخرجه البخاري
وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ رواه مسلم. قال النووي: ' المَشاقص: سهام عراض.
حكم الصلاة على المنتحر:
قال أبو حنيفة: لا تترك الصلاة على أحد من أهل القبلة.
وقال مالك بن أنس: ويصلى على قاتل نفسه.
وقال الشافعي رحمه الله: ولا تترك الصلاة على أحد من أهل القبلة برا كان أو فاجرا.
وقال سفيان الثوري: ولا تترك الصلاة على أحد من أهل القبلة، حسابهم على ربهم عز وجل؛ لأن الصلاة سنة.
وقال الأوزاعي: لا تترك الصلاة على أحد من أهل القبلة وإن عمل أي عمل.
ومهما كانت الأسباب الاقتصادية صعبة فليس ذلك بمبرر لأحد عاقل يقوم بهذه الفعلة الشنيعة وما أظن عاقلا يقدم على مثل هذا العمل.
أما من أصيب بخبل في عقله أو غلب عليه فهذا يندرج تحت إذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب وكان الله في عونه وعون أهله.
والله أسأل أن يهدي شباب الإسلام وفتياتهم إلى ما يحب ربنا ويرضى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الشيخ عبد الباري بن محمد خلة