الشيخ عبد الباري بن محمد خلة | مقالات | كيف تحقق الأنس بالله؟!

اليوم : الجمعة 24 شوَّال 1445 هـ – 03 مايو 2024م
ابحث في الموقع

كيف تحقق الأنس بالله؟!

 الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

فالأنس ضد الوحشة وهو القرب من الله تعالى وكلما اقترب العبد من ربه كان أنيسا به، فالأنس ثمرة الطاعة والمطيع مستأنس والعاصي مستوحش.

قال الله تعالى: 'وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ' (البقرة:186)

والعلاقة بين العبد وربه علاقة حب لا مجرد علاقة قال الله تعالى:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]

'يحبهم' فالحب يبدأ من الخالق فكيف بحب المخلوق وكما قيل: ' فليس العجب من عبد يتودد إلى سيده لكن العجب كل العجب من ملك يتودد إلى عبيده'.

يقول بعض العلماء: 'أعظم نعمة علي أن الله هو الله'.

إن حب الله الكامن في القلب يشعر صاحبه بأنه ملك يعيش في الأرض ومن يكن قلبه مشغولاً بحب الله يجد الأمان والأمان ويشعر بالقرب من الله والأنس به.

إن الأنس بالله شعور يغمر كيان الإنسان بالإيمان يجد حلاوته في خلوته، حينما يناجي ربه.

والأنس بالله من آثار المحبة، لأن المحب مطيع لله مستعين به، يأنس في أوقات العبادة وأوقات الراحة والمحب لا يشعر بالوحشة والغربة وإذا كان نعيم الجنة لا يساوي شيئا بالنسبة إلى لذة النظر إلى وجه الله الكريم؛ فكذلك نعيم الدنيا لا يساوي شيئا مقابل نعيم الأنس بالله.

وقال بعض الحكماء: 'مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أحلى ما فيها. فقيل له وما أحلى ما فيها قال: حلاوة الأنس بالله'.

ولا بد أن يكون الإنسان قريبا من ربه وأن تكون له أوقات يناجيه فيها قال ابن تيمية: قال 'إن سجني خلوة وقتلي شهادة ونفيي سياحة'.

ومن كان قلبه فارغاً من حب الله فلا يأنس ويبقى في الوحشة والغربة ولو كان حوله الناس، ويغلق القلب أبوابه وتفتح عليه سبل الشهوات ويسلك طريق الضياع، ويبقى في الحيرة والشقاء.

وانشغال القلب بالله يفتح أبواب السعادة يقول ابن القيم رحمه الله: إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله، وإذا فرح الناس بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنس الناس بأحبائهم فأنس أنت بالله، وإذا ذهب الناس إلى ملوكهم وكبرائهم يسألونهم الرزق ويتوددون إليهم فتودد أنت إلى الله.

وتحقيق الأنس بالله يجمع ثلاثة أمور رئيسة: 'القلب واللسان والجوارح'.

فقد سئل أبو سليمان الداراني - رحمه الله - : ما أقرب ما يُتقرب به إلى الله عز وجل ، فبكى ، ثم قال : مثلي يسأل عن هذا ؟ أقرب ما يتقرب به إليه أن يطلع على قلبك وأنت لاتريد من الدنيا والآخرة غيره جل وعلا .

ويقول ابن القيم: دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام فلم أتمكن من الدخول حتى جئت باب الذل والافتقار فإذا هو أقرب باب إليه، وأوسعه ولا مزاحم فيه ولا معوق فما أن وضعت قدمي على عتبته فإذا هو سبحانه أخذ بيدي وأدخلني عليه.

ويقول أيضا: في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفي القلب وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفي القلب خوف وقلق لا يذهب إلا بالفرار إلى الله، وفي القلب حسرة لا يطفئها إلا الرضا بالله’.

ولا بد أن يكون القلب سليما يقوم بالمهام التي خلق من أجلها وإذا كان القلب مريضا تعذر عليه أداء الوظيفة التي خلق من أجلها وإذا مرض القلب فلا أنس له ولا محبة وقر بداخله الشيطان الذي يمنع دخول الرحمة، قال ابن تيمية في قول النبي صلى الله عليه وسلم 'لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة': إذا كانت الملائكة المخلوقون يمنعها الكلب والصورة عن دخول البيت فكيف تلج معرفة الله عز وجل ومحبته وحلاوة ذكره والأنس بقربه في قلب ممتلىء بكلاب الشهوات وصورها.

واللسان وسيلة اتصال حيث يعبر اللسان عما في القلب وأفضل قول هو ذكر الله قال الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (البقرة:152)

وعن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ. رواه البخاري

وعن أَبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا مَعَ عَبْدِي حَيْثُمَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ. رواه البخاري.

 وكلما ذكرت الله ذكرك فمن المحتاج إلى الذكر أنه الفقير الذليل إنه المخلوق.

قال الإمام الجنيد لتلاميذه: تعالوا بنا نذكر الصالحين فبذكرهم تحل البركة، فقال بعض طلبته: يا شيخنا إذا ذكرنا الصالحين تحل البركة فماذا إذا ذكرنا الله؟ فأطرق الشيخ قليلا.. ثم رفع رأسه فقال إذا ذكرنا الله حلت الطمأنينة في القلوب {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) } [الرعد: 28].

ولا بد للجوارح من طاعة وعبادة فأمامها الصلاة، والصيام والحج وغيرها، فبالعبادات تتصل بالله سبحانه وتفوز بالقرب به والأنس به.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ رواه البخاري.

وأوصت امرأة صالحة أولادها فقالت: ' تعودوا حب الله وطاعته فإن المتقين ألفوا الطاعة فاستوحشت جوارحهم من غيره فإن عرض لهم الملعون بمعصية مرت المعصية بهم محتشمة فهم لها منكرون'.

وقال بعض العلماء ' العارف بالله أنس بالله فاستوحش من غيره، وافتقر إلى الله فأغناه عن خلقه، وذلّ لله فأعزه في خلقه'.

واستيقظ أحد الصالحين يوما، فوجد امرأته تصلى وتدعو دامعة العينين مخلصة الدعاء لله فتعجب من صلاحها وكيف أنه الرجل ينام بينما تبقى هى زاهدة عابدة.. فقال لها: ألا تنامين.. ما الذى أبقاك إلى الآن؟ فردت الزوجة الصالحة بخشوع: وكيف ينام من علم أن حبيبه لا ينام؟ !!!!

ومن مجالات الأنس بالله قيام الليل والتفكر في خلق السموات والأرض والدعاء والخشوع في الصلاة وقراءة القرآن وذكر الله تعالى وغير ذلك من طاعات.

وما أجمل قول عثمان بن عفان رضي الله عنه: ' والله لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله'.

وقال بعضهم: كل طاعة تقربك من الله وكل معصية تبعدك عن الله، يقول بعض السلف '

وقال الآخر: استح من الله على قدر قربه منك، وخف من الله على قدر قدرته عليك'.

 وسئل بعض السلف ما علامة الإيمان وما علامة النفاق؟ قال: يابني إن سرتك الطاعة وساءتك المعصية فأنت مؤمن، وإن سرتك المعصية وساءتك الطاعة فأنت منافق..

وهكذا فإن الأنس بالله تعالى يهديء من روع المسلم ويجعله بين أقرانه قرير العين آمنا مطمئنا لا يخاف إذا خاف الناس ولا يحزن إذا حزنوا لأنه قريب من ربه محبا له عارفا به فنعم الرب ربي ونعم العبد ما كان محبا لله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

       الشيخ عبد الباري بن محمد خلة

 

 

 

الأكثر مشاهدة


لقمة الزقوم والقلاش ذوق الطعام من البضاعة قبل الشراء

الورع

الغفلة

الاشتراك في القائمة البريدية